فقيد الأمة

وليد الخفيف

تدمي القلوب لرحيل ملهمها.. مصدر نورها وفخرها، أمّا العيون فانطفأ بريقها بعدما غمرتها دمع مختلط بدم لوداعك المهيب، فلم تودعك الحشود وحدها بل ودعتك السماء التي انهمرت بكاءً غزيرا..

فيا من حييت مهيبا في الدنيا، ورحلت شامخا إلى مثواك الأخير.. فعبق سيرتك الخالدة باقٍ في قلوب الشرفاء بحروف من نور في أوسع كتب التاريخ.. ليتربع اسمك في معجم عظماء الأمة وكبار قادتها الملهمين..

سيرتك يا بن سعيد سنروي تفاصيلها المجيدة لأبنائنا وأحفادنا جيلا بعد جيلا، وسنكتبها بحبر صدق وإخلاص مبين، ليتعرّف من يأتي بعدنا على قصة حاكم عادل اسمه قابوس بن سعيد.. شريف النسل حفيد السلاطين، نبيل الخلق في زمن قلّ فيه النبلاء والشرفاء.. عاهل عمان المفدى.. باني دولتها العصرية الحديثة التي تأتي امتداد لحضارة مجان وامبراطورية سطع نورها على القارتين بسواعد أسود البحار المتنسمين من عبق اللبان.

فما أصعب رحيلك الذي اعتصرت له القلوب حزنا.. فنكست الأعلام المرفوعة سواريها في كل ربوع الوطن العربي ألما، وأضحى السواد وشاحنا.. أسود بأسوار شاهقة يحيط بوجع وأنين محبيك في اثنين وعشرين دولة تمتد من المحيط إلى الخليج.

ليبكيك شعبك الأصيل من مسقط وحتى ظفار بدمع العين، وتلاحقك دعوات الملايين في كل بقاع المسلمين، فمن بلاد الحرمين الشريفين ندعو، ومن مرقد الرسول محمد خير الأنام نبتهل بلسان محب مخلص آمين.. طيب الله ثراك بدعوات أطفال العراق واليمن وفلسطين، وبسجود المصلين في المسجد الأموي بدمشق أعرق عواصم المسلمين.. وتقبل نسمات الجنة التي يفوح عبيرها من ألسنة أئمة الأزهر الشريف.. وتنبض بحبك وذكراك الحسنة وجميل صنعك شعوب الأمة العربية والإسلامية أجمعين.. وينعي رحيلك كل إنسان محب للسلام والوئام والاستقرار فأنت رسول السلام وقبلة الوئام للعالم أيها العروبي الأمين..

 رحلت يا سلطان القلوب يا بن سعيد إلى مثواك الأخير، ولكنك باقٍ في نفوس أبنائك المخلصين من مختلف أطيافهم وانتماءاتهم مجتمعين على حبك والعرفان لشخصك العظيم.. فلقد أحسن إلينا القابوس الذي رحل وترك قبس نوره منارة للشرق والغرب أجمعين.. فلقد أحسنت إلينا بفضل سخي كريم.. واليوم علينا أن نروي روحك الطاهرة بدعاء فصيح.  

لم تفقدك عمان فحسب، بل فقدتك الأمة العربية والإسلامية كلها.. فقدت رجلا من أعز الرجال المخلصين.. رجلا كرّس حياته لخدمة الإنسانية كلها، مدافعا كفارس نبيل عن قضايا وطنه العربي الكبير، متسارع الخطى لم يوفر جهدا دون تباطؤ لتحقيق الرفاهية لشعبه الأصيل، آملا أن يعم الاستقرار والسلام على شعوب المنطقة التي لقبته بالحكيم.. ولما لا.. فالبلد الطيب أهله كانت وستظل دوما قبلة للفرقاء والمتخاصمين، ومستقرا وملاذا آمنا لنبذ الخلافات والانقسامات نحو صف عربي واحد متين.. 49 عاما قضيتها من أجل السلام.. نبراسا يشع بنور جماله الوئام.. ما الذي بينك وبين خالقك لتستحوذ على قلوب الملايين؟ ماذا بينك وبين ربك ليبكيك أطفال لم يروك؟ أُجزم أنه فضل من رب العالمين.. فالحب الذي لمسناه لطلتك، تجرعنا مرارته ألما لفراقك بلا زيف ولا تضليل..

إنّ دولة العدل والنظام والقانون والمؤسسات التي أرسيت قواعدها المتينة في عهدك الميمون صهرت جميع من يعيش على أرضها مواطنين كانوا أو مقيمين.. فتحت رايتك مضينا، وستظل مرفوعة هامتها عنان السماء حبا للعمانيين.

ما قدمته لوطنك في 49 عامًا سيبقى درسًا في الوطنية ومنهجًا متكاملا لبناء دولة عصرية في زمن قصير.. فنجاحك ارتكز على العدل الذي شمل البلاد والعباد ونحن من الشاهدين.. فالصدق والمساواة في دولة المؤسسات قواعد أرسيتها منذ عام سبعين.. وسيبقى ما قدمته للعروبة والإسلام تاجا على جبين الزمن يجزيك به الله خير جزاء الصالحين.. ولتنهل عمان من فيض سياستك الحكمية احتراما وتقديرا من الآخرين.  

لم ترحل سيدي قبل أن تطمئن على بلادك التي يحفها الآمن والاستقرار كافة ربوعها.. فما صدّرته عمان في تناقل السلطة نموذج لشعب مثقف واع كالبنيان المرصوص.. ارقد في سلام في جنات الخلود مع الصالحين.. المجد لعمان.. والولاء والطاعة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور آل سعيد.. ليكمل مسيرة البناء في عهد يحده أمل جديد.. ولتتسلم غصن الزيتون ليبقى في يد ولتحمل الأخرى مشعل نور من قبس قابوس المنير.