الجيش الجزائري يستنسخ التجربة المصرية (2-2)

علي بن مسعود المعشني

بعد تحقيق بوتفليقه للمصالحة الوطنية وفق ما عُرف بـ"قانون الوئام المدني"، وتعزيز مكانة الجزائر على الساحة الدولية مجددًا، تفرغ للشأن الداخلي وعلى رأسه ملف ضباط فرنسا.

هذه الخلية التي شكَّلت مؤسسة موازية للحكم وحكومة ظل عتيدة تغولت بشكل جلي وكبير منذ عام 1992م، واستقطبت حولها جميع رموز الفساد المالي والإداري؛ حيث عُرف في الجزائر مصطلحات ومسميات كالملوك لكبار الجنرالات ورجال الأعمال الطفيليين، والذين أنتجهم هذا المناخ الفاسد؛ فأصبح هناك ملك للحم وملك للدجاج وملك للسكر وملك للقهوة وملك للقمح وملك للحديد وملك للأسمنت وملك للأخشاب، وقس على ذلك كل المنتجات المحلية منها والمستوردة حيث تقاسمت العصابة مقدرات وحاجات البلاد وبمباركة مكوناتها وحمايتهم لأنفسهم. لم تكتفِ عصابة فرنسا بمصادرة استقلال الجزائر فحسب، بل تغوَّلت في الفساد لتشكل نموذجًا للفساد ذاته، بعد أن ارتبط الفساد في الجزائر بعدد كبير من كبار رموز قيادات الجيش وزبانيتهم وأصبحت المصلحة الخاصة فوق مصلحة الوطن.

وكانت أهم قرارات الرئيس عبدالعزيز بوتفليقه على الصعيد الهيكلي الداخلي للدولة: قرار عزل الجنرال العربي بلخير من منصبه في الرئاسة وتعيينه سفيرًا للجزائر في المغرب، وقد يكون هذا التعيين في تقديري بالتوافق بين بوتفليقه وسلطات معينة في المغرب؛ حيث قيل إنَّ القصد من تعيين سفير بحجم وثقل بلخير في المغرب هو لتفعيل العلاقات المتوترة بين البلدين وتسوية الخلافات العالقة بينهما لعقود، وعلى رأسها قضية نزاع الصحراء الغربية، كما أنني أعتقد بأن بوتفليقه بدهائه سعى لوضع بلخير تحت مجهر المخابرات المغربية القوية لرصد تحركاته واتصالاته، والتي قد تُعيق حملة التطهير التي سيدشنها بوتفليقه في الجزائر لاحقًا بدءًا من المؤسسة العسكرية، ويقول البعض إنَّ المنصب كان نفيًا للعربي بلخير إلى بلد جوار ولا يمثل أي أهمية آنية للجزائر في علاقاته، خاصة بعد أن شاعت أخبار عن تورط بلخير ببنك الخليفة المنهار وملاحقة أعضاء مجلس إدارة البنك بمذكرات اعتقال دولية.

إبعاد بلخير عن الجزائر تسبَّب في فقدان العصابة لعقلها، وإن كانت لم تعِ ذلك حينها، ثم أتت الخطوة الأهم وهي التخلص من الجنرال القوي محمد العماري بالتقاعد عام 2004م وتعيين اللواء أحمد قائد صالح خليفة له في رئاسة الأركان. ثم أتت خطوة تثبيت بوتفليقه للفصل الأخير من خطته لتطهير الجيش والوطن من العصابة بتعيين الفريق أحمد قائد صالح نائبًا لوزير الدفاع عام 2013م، إضافة إلى وظيفته رئيسًا للأركان، وهو منصب مستحدث وناسخ للمنصب المعتاد بوزارة الدفاع الجزائرية، وهو منصب أمين عام وزارة الدفاع. وهنا أطلق بوتفليقه يد الفريق صالح في قطع الرؤوس التي أينعت وحان قطافها.

كان الاختبار الأول للفريق صالح في حماية ظهر الرئيس بوتفليقه وجدية تنفيذه لمهمة التطهير في اجتماع طارئ عام لكبار قادة الجيش والأجهزة الأمنية دعا له الجنرال توفيق رئيس المخابرات بعد سفر الرئيس بوتفليقه لرحلة علاجه الأولى إلى سويسرا عام 2013م؛ حيث بقي هناك لـ65 يومًا؛ حيث وجد الجنرال توفيق بحسه الأمني فرصة لتطبيق مادة من الدستور الجزائري والتي تنص على شغور منصب الرئيس في حال عجزه عن مزاولة مهامه لمدة تزيد على 60 يومًا، وكأنه يستشعر مخطط بوتفليقه/صالح وتحالفهما؛ حيث قال الجنرال توفيق للحضور: لابد من تطبيق الدستور وعزل الرئيس لعجزه طبيًّا والشروع في انتخابات رئاسية مبكرة.

"هناك من يقول إنَّ الرئيس بوتفليقه تعرض لمحاولة تسميم سبَّبت له جلطة أفقدته بعض حواسه منذ عام 2013م، والاجتماع المذكور قد يكون من ثمار تلك العملية".

هنا.. انبرى الفريق صالح للحضور مدافعًا عن الرئيس بوتفليقه، ومذكرًا الحضور بمناقبه وتاريخه النضالي، ومحذرًا في ذات الوقت -بحكم مسؤولياته- من أي محاولة كهذه دون إجماع وإقرار من كافة الأطراف المعنية في الدولة الجزائرية ورفع الاجتماع. وأثر ذلك، نصح الفريق صالح في اتصال هاتفي عاجل الرئيس بوتفليقه بقطع رحلة العلاج والعودة فورًا إلى الجزائر لسد باب الذرائع.

ومن أكثر المهام غرابة وإثارة وجرأة للفريق أحمد قائد صالح، قيامه بعزل الفريق محمد مدين المدعو توفيق رئيس جهاز المخابرات العامة طيلة 25 عامًا (استبدل به نائبه اللواء عثمان طرطاق)، الرجل القوي في الجزائر والذي حمل لقب صانع الرؤساء؛ حيث بقي المذكور في منصبه منذ 1990م وفي فترات تعاقب فيها خمسة رؤساء على حكم الجزائر (بن جديد، بوضياف، علي كافي، اليمين زروال، بوتفليقه) ومئات من الوزراء والمسؤولين المدنيين والعسكريين دون المساس بالجنرال توفيق ومسؤولياته.

وجهاز المخابرات في الجزائر جهاز مهني عميق ويعمل وفق هيكلية الـ"كي.جي.بي" الروسي؛ كون أغلب من تعاقبوا على رئاسته من خريجي المدارس العسكرية والمخابرات الروسية؛ حيث يتكون الجهاز من رئاسة عامة وأجهزة فرعية لجميع قطاعات الدولة الجزائرية السياسية والعسكرية والمدنية، وبلغت سطوة الجهاز وقوته -وكما قال لي أحدهم- أن في فترة بعينها تم إلحاق عقيد مخابرات مختص بكل مكاتب الوزراء بالجزائر لتوجيههم ومراقبتهم.

ولم يستمر اللواء طرطاق طويلًا في منصبه كخليفة للجنرال توفيق؛ إذ سرعان ما استُبدل باللواء الشاب محمد قايدي الرجل الوطني العروبي والابن الشرعي للمؤسسة العسكرية والمشهود له بالكفاءة والمهنية والنزاهة ومكافحة الإرهاب في سنوات الجمر؛ حيث يعول عليه تطهير جهاز المخابرات والعودة به لمهنيته ومسؤولياته الرئيسة في حماية أمن الوطن بالتناغم التام مع رسالة المؤسسة العسكرية المستمدة من ثقافة وميثاق ثورة نوفمبر المجيدة.

لم تكن رحلة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقه في التطهير مفروشة بالورد؛ حيث يعلم الرجل الشراك والأفخاخ المنصوبة له وبواطن الدولة العميقة، وحجم النفوذ الفرنسي والغربي ببلاده؛ لهذا وظف دهاءه واستخدم إستراتيجية النفس الطويل وتغاضى عن أمور آنية كثيرة في سبيل تحقيق مكاسب بعيدة وعلى قاعدة الأهم أولى من المهم، الى درجة أن البعض اتَّهمه بأنه من ضمن العصابة نفسها، وأتى للانتقام والتشفي من الجزائر، خاصة مع بروز نفوذ شقيقه السعيد بوتفليقه، الذي شكل حكم مواز لشقيقه؛ حيث لم يستوعب هؤلاء مغازي مفردات وجمل عبدالعزيز بوتفليقه في مناسبات عديدة من حكمه وتصريحاته بأنه هو من سيقتل "السبع"، ولكن بمساعدة الشعب، وأنه لن يقبل بأن يكون "نصف" رئيس للجزائر.

يعلم بوتفليقه أنَّ الجيش الوطني الجزائري هو صمام الأمان، وأن به رجالًا وطنيين قادرين على دعمه ودعم الجزائر في حال وجود رئيس قوي وذكي ومناور، لهذا عمل على إيجاد الضد النوعي للعصابة ورموزها وتمكينهم -بذكاء يفوق العبقرية- من مفاصل المؤسسة العسكرية والاستخبارات أولًا؛ حيث سيسهل عليه لاحقًا تمرير مخططه الإصلاحي لجزائر الغد.

اليوم.. الجزائر في وضع مثالي للغاية، وقطعت شوطًا مهمًّا وكبيرًا جدًّا في رسم ملامح الدولة القادمة؛ فالعصابة ورموزها العسكريين والمدنيين جميعهم في السجن، بمن فيهم شقيق الرئيس السعيد بوتفليقه، وأموالهم المنقولة وأملاكهم تحت الحجز، وبتعيين اللواء سعيد شنقريحة رئيسًا للأركان بالإنابة، خلفًا للراحل أحمد قائد صالح يعني امتدادًا لسياسة صالح في التطهير، خاصة وأنَّ اللواء سعيد معروف بوطنيته ونزاهته ومهنيته العسكرية العالية وشخصيته الجادة، كما أنه يتقاسم مع الراحل صالح عدم إجادة أيٍّ منهما للغة الفرنسية، وهذا ما نزع عنهما العاطفة اللغوية تجاه فرنسا، ناهيك عن نظرتهما لفرنسا من باب الثورة، كما يختلف اللواء سعيد عن رفيق دربه صالح بأنه يعف عن الخوض بالسياسة، ويعارض الزج بالجيش فيها؛ لهذا فمن المرجح أن يبدأ الجيش الجزائري العودة إلى ثكناته تدريجيًّا، خاصة مع وصول الرئيس عبدالمجيد تبون إلى سُدة الرئاسة، وتعيينه الدكتور عبدالعزيز جراد رئيسًا للحكومة والدبلوماسي العروبي محند أوسعيد ناطقًا رسميًا باسم الرئاسة؛ فوصول تبون المغضوب عليه من العصابة للرئاسة، وتولي الأكاديمي النزيه جراد للحكومة، وتعيين العروبي الأمازيغي الحر أوسعيد ناطقًا رسميًا، جميعها رسائل للعصابة والفرانكفون بداخل الجزائر، وتعيين اللواءين شنقريحة وقائدي على رئاسة الأركان والمخابرات هي رسائل قوية لفرنسا ورموزها ونفوذها التاريخي.

الجزائر اليوم تحت المجهر العربي والغربي ما بين فخور ومتحفِّز لتقليد ومحاكاة النموذج الجزائري في بناء الدولة الوطنية، واستردادها هُويتها ومقوماتها ومقدراتها ومكانتها، وتمكين الوطنيين والشرفاء من أبناء الوطن، وما بين مُتربِّص بالتجربة ومتحيِّن للانقضاض عليها وإفشالها وتدميرها تحت أي مسمى أو مبرر أو ربيع.

وبالشكر تدوم النعم...،

--------------------

قبل اللقاء:

تحية إجلال وإكبار لكل من نافح المستعمر وطابوره الخامس في جزائر الاستقلال؛ لاسترداد هُوية الجزائر العربية الإسلامية المسلوبة والممسوخة، وعلى رأسهم: العقيد محمد شعباني، واللواء مصطفى بلوصيف، وقبلهم "أبو" تعريب الجيش الجزائري العقيد محمد الصالح يحياوي، والمناضلان بوعلام بن حمودة "أبو" تعريب الإدارة والقضاء في الجزائر، حين تولى وزارتي الداخلية والعدل على التوالي، والمناضل الأمازيغي الحر والمنافح عن لغة الضاد في الجزائر من المهد إلى اللحد مولود قاسم آيت بلقاسم، وختامًا الفريق أحمد قائد صالح "منفذ" التحرير الثاني للجزائر من العصابة بتخطيط المناضل العبقري والداهية عبدالعزيز بوتفليقه، وكل من سار على أثرهم سرًّا وجهرًّا إلى يوم البعث العظيم.. حفظ الله الجزائر الحبيبة بما حفظ به ذكره المُنزل العظيم من كل شر ومكروه.