عادوا.. والعَوْد مسقط

 

 

< السلطنة ككيان سياسي عربي يفوق عمره الألفي عام عليها مسؤولية تاريخية وحضارية لا يمكنها التخلي عنها

 

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

 

في العام 1976م، دعا سلطان الحكمة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- الأقطار الخليجية والعراق وإيران إلى تشكيل تكتل سياسي بحُكم الجغرافيا والجوار والمصير والتاريخ المشترك، تحت أي مسمَّى أو صيغة تلبِّي النأي بالمنطقة عن الأطماع والأحلاف والتكتلات السياسية الكبرى، وتُلبي للمنطقة التعاون المثمر والاستقرار، لكن تلك الدعوة الحكيمة يبدو أنها كانت سابقة للوعي السياسي لدى البعض، واستشراف غير مألوف لديهم عن ماهية المنطقة وواقعها المستقبلي، فلم تلقَ التجاوب المطلوب.

ثمَّ أعاد سلطان الحكمة مرة أخرى بعد نكبة احتلال الكويت وتحريرها، والتي بذل فيها جلالته جهدًا كبيرًا لتلافي أسوأ فصولها وتداعيات تلك الكارثة على المنطقة برمتها، لكنك لا تهدي من أحببت؛ حيث تمَّت الدعوة لإنشاء جيش خليجي موحد يتمتع بالقوة القتالية العالية والتسليح العصري النوعي، مهمته حماية المنطقة من تكرار سيناريو الغزو مجددًا، ولكن ذات البعض ركن لعقليته التقليدية وحارب الفكرة ووأدها في مهدها؛ اعتقادًا منه أنَّ حرب الكويت خاتمة أحزان المنطقة، وخاتمة الأطماع فيها وعليها.

لم يقف ذلك البعض ويكتفي بوأد تلك الأفكار التحصينية للمنطقة، بل تفنَّن في هدر طاقاته وطاقات ومقدرات المنطقة، وقضم أطرافه والنيل من مكاسبه ومواطن مناعته؛ حيث بدأ في سلسلة مغامرات إقليمية وعربية ودولية، وأقحم نفسه طوعًا وبلا وعي في صراعات ومواقف وقضايا تفوق طاقته وخارج نطاق مصالحه، وبالنتيجة عرض المنطقة وكياناتها ومستقبلها لمخاطر ورهانات أشبه بالقمار السياسي دون وعي منه بخطورة أفعاله، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تمادى في اتهام من ليس معه بأنه ضده؛ حيث تسلح بعقلية البُعد الواحد بكل تفاصيلها وأعراضها، وهذا ما أفقد المنطقة الكثير من طاقاتها ورصيدها السياسي التاريخي الذي أسَّسه جيل الآباء، وحرصوا عليه كهُوية سياسية لأقطار الخليج، والتي عُرفت فيما مضى بالسعي للخير باليد واللسان، لكي تبقى من الذين أطعمهم الله من جوع وآمنهم من خوف.

وفي السياسة خزين وفير من المعادلات الرياضية، رغم كونها علمًا إنسانيًّا يحمل قواعد وفرضيات ثابتة ومتحولة؛ لهذا كانت السلطنة وسلطانها تقرأ العديد من الأمور في سياقها الرياضي البحت والذي لا يمكن أن يُخطئ.

السلطنة وسلطانها لا يمكنهما على الإطلاق بناء السياسة على قواعد القمار؛ فالسلطنة ككيان سياسي عربي يفوق عمره الألفي عام عليها مسؤولية تاريخية وحضارية لا يمكنها التخلي عنها أو الإخلال بها، كما أنَّ تراكم التجربة التاريخية لا يعفيها من التعاطي مع الأمور إلا على قاعدة لاعب الشطرنج المحترف، والذي يجيد تحريك القطع في الوقت المناسب.

الزاد التاريخي للسلطنة يُرشدها كثيرًا وحصنها من مزالق كبيرة وجعل بصيرتها أبعد من بصرها ومن نظرة من حولها، بل وجعل من سياسة الحياد الايجابي التي تنتهجها منذ فجر نهضتها المباركة عام 1970م سياسة فاعلة؛ حيث حققت السلطنة من خلالها أهم عنصرين؛ هما: صفر مشاكل، ودولة بلا أجندات خاصة.

البعضُ لا يفرِّق ما بين الحياد الإيجابي والانعزالية، ويعتقد أنَّ السلطنة عزلت نفسها عن أحداث الإقليم والعالم؛ فنعمت بالاستقرار والقبول، بينما واقع الحال يقول بأن السلطنة اختارت الحياد الإيجابي كسياسة فاعلة بصمت وتأثير دون إخلال بموروثها وثوابتها التاريخية؛ لهذا كسبت الحسنيين: الأمن، وثقة المجتمع الدولي.

سلطنة عُمان ليست دولة غانية تبحث عن الثناء والإطراء والمدح، وإلا لكانت تتقدَّم الركب في سياسة العلاقات العامة لتحقيق الحضور الإعلامي والأرقام القياسية، لكنها دولة بُنيت في سياق التاريخ بوجهه المشرق، وسعى كل من قادها إلى إضافة لبنات جديدة على ذلك الصرح المُنجز؛ وبالنتيجة بقيت عُمان كما يراها العالم في الحاضر كما كانت في الماضي وكما ستبقى في المستقبل.

وبالشكر تدوم النعم...،

------------------

قبل اللقاء: مشكلة البعض في منطقة الخليج أنه يعتقد أن "تحالفه" مع قوى كبرى يعفيه من بناء قوته الذاتية، بل ويعتقد أن تلك القوى هي طوع بنانه في أي لحظة وظرف وقضية وليس العكس!