قراءة نقدية في رواية "ميلانين" للكاتبة "فتحية دبش

...
...
...

 

د. قائد غيلان | اليمن

 

" كان المسير مرهقا و الثنايا بها انعطافات حادة، لا ظلال لشجر الكالبتوس التي كنت أحتمي بها من الهاجرة حين كنت طفلة تؤوب إلى القيروان صيفا و إلى باريس حين الخريف. كل شيء لبسه الجفاف و الموت. لا شيء بقي غير المسافات ال بلا نهاية. لا شيء ينتهي البتة، حتى الحكايات المتناسلة بعضها من بعض تئد واحدة و تلد أخرى، تطمس النهايات معالم لترسم أخرى. و نحن نركض في تيهها اللامعقول. بدايات خبرتها و خبرتني منذ صرنا نحمل في حقائبنا الأرض و الناس و الروائح و الحكايات و الحب، لم تعد تباغتني كما كانت تفعل بالذين من قبلي.. مشيتها المسافات مترجلة تارة و طورا على ظهر أغنية لحليم أو محمد منير و قلما أم كلثوم التي غالبا لا تطربني، فأنا على قلة حيلتي لا أحب البكاء.

نعم! أراك تندهشين و تعقدين حاجبيك متسائلة... سأفك عنك أسرار الدهشة المرتسمة حول عينيك، و اؤكد لك أنني أستمع إلى أغان عربية، و يحدث أيضا أن أدندن إحداها و يحدث حتى أن تطربني... و لكنني أطرب أيضا و كثيرا جدا لخوليو في (يوما تبكي، يوما تضحك) أو خالد و (عيشة) أو حتى فلوران بانيي و (حريتي في التفكير) ! تحمل الأغنيات عني رسائل كثرا و تحملها أيضا إليّ..."  ( ميلانين،ص:87).

 

الرواية والسينما والشعر:

قامت السينما على أكتاف الرواية، فالفيلم السينمائي رواية مشاهدة، وبقدر ما خدمت السينما الرواية بتحويل عدد كبير منها من عمل أدبي مقروء إلى عمل فني مشاهَد، فإن السينما قد ألحقت ضررا كبيرا بالرواية وذلك لامتلاكها وسائل جمالية أكثر إغراء. أصبح الروائي في تحدٍ مباشر، فهو مطالب بالإدهاش بوسائل أخرى لا تتوفر عليها السينما، ولم يكن غير الشعر، فعمل بعض الروائيين على توظيف الشعر في الرواية، وهذا التوظيف يأتي لدواعٍ جمالية مفروضة على الكاتب، فإذا كان المخرج السينمائي يتوفر على تقنيات عديدة، فليس أمام الروائي إلا اللغة_  ومنها الشعر _ وعليه أن يستثمرها إلى أبعد مدى، . لهذا نفسر الانتشار الواسع لروايات أحلام مستغانمي، رغم إن رواياتها تفـتقر إلى أبسط التقتيات الروائية المعاصرة، فلم تحصل على كل ذلك المجد إلا بسبب الجمل الشعرية المبثوثة في كل أعمالها، لقد تفـتّت روايتها إلى فقرات مبتورة يتبادلها المحبّون، ليس ذلك إلا لأن تلك الفقرات كانت زائدة على النص، وفائضة عن السياق، لكن ثراءها الشعري غفر لها فقر الصنعة وبدائية الأسلوب المتمثل في الرواية المونولوجية وحيدة الصوت. وبالمقابل نجد هناك من ساير أسلوب مستغانمي وحشر في روايته جُمَلا تتوسل بالشعر وخاصة الاستعارت والتشبيه، لكنهم لا يمتلكون الحسّ الشعري الذي تمتلكه أحلام مستغانمي، فتبدو تعبيراتهم وكأنها أحضِرَت رغما عنها إلى جسد النص، كمن يضع رقُعاً جديدة على أثواب قديمة،  وتبقى الزخارف اللفظية عبئا على النص وعلى القارئ سواء في الشعر أو في الرواية. 


جمالية السرد في رواية ميلانين:

من بين كل هذي التجارب تأتي رواية " ميلانين" للكاتبة التونسية "فتحية دبش" رواية متقدمة ومتجاوِزة فناً وأسلوباً ولغة، فهي رواية حوارية توظِّف مجموعة من التقنيات السردية الحديثة، وتحتفظ بلغة شعرية جميلة تتخلل السرد من غير تكلُّف ولا غلو. إنها تستفيد من تقنيات الشعر دون أن تغرق في البوح الشخصي الخالص الذي يحوّل العمل الأدبي إلى مجرد مناجاة ذاتية تتمحور حول الفرد وقضاياه الشخصية الخالصة.  ميلانين ليست ذلك النص الحائر بين الشعر والسرد، ولكنها نص مخلص للرواية، تنطلق من اللغة، وتوظف كل ما فيها من إمكانياتها تعبيرية.

استطاعت الكاتبة فتحية دبش أن تنتزع مصطلح "ميلانين" من بين المصطلحات العلمية فجعلته اسم علم لرواية عبَرت الوطن العربي من مغربه إلى مشرقه، ميلانين؛ هذا الاسم العلمي للمادة المسؤولة عن تحديد لونك، مَن كان يصدق أنه سيصبح اسماً لواحدة من أجمل الروايات العربية.

فتحية دبش روائية تونسية، وهي شاعرة وقاصة وناقدة أيضاً، هدية أخرى للأدب العربي وإضافة نوعية للإبداع العربي. تتملّكُك الدهشة وأنت تقرأ هذه الرواية، تتوقف عن القراءة وتهتف في سرِّك: هذا هو الأدب، وهذا هو الإبداع.

تحشد الرواية تقنيات فنية متعددة؛ إنها تتحاور مع القارئ وتجادله وتشكو منه، وتعيد تعريفه، إنه توظيف فنّي يستوعب مقولات التأويل ونظرية التلقي لمفهوم القارئ، مثل طروحات ريفاتير وإيزر حول " القارئ الضمني" و "القارئ الأعلى". كما تتحاور الراوية " أنيسة عزوز" داخل الرواية مع بطلة قصتها، وتتبادلان الأدوار، تتحول البطلة إلى راوية وتتحول الراوية إلى قارئة ضمنية أو فعلية لما تكتبه البطلة، فتجد نفسك أمام " ميتارواية" دون أن تفرط الرواية في التحليق عبر الميتارواية بشكل كامل، هو مجرد تنويع على مستوى الأسلوب،  مثل توظيّف تقنيات متعددة في عمل واحد؛  كالمذكرات والرسائل والملاحظات " القصاصات".

تتحرك الرواية بلياقة ولباقة كافيتين عبر عدة مستويات تعبيرية، تقبض على القارئ " الفعلي" عبر ذلك السحر المختبئ بين السطور؛ سحر الإبداع، فالراوية تترك موقعها التقليدي في الحكي، وتمنح الكلمة لأبطال الرواية، يتحدثون عن أنفسهم، كما فعل نجيب محفوظ في " يوم مقتل الزعيم" لكن فتحية دبش وظّفت الأسلوب دون أن تطبّق ذلك الإجراء حرفياً، أي إنها تستفيد من الأسلوب دون أن تقع في التبعية. لقد منحت أبطالها مساحة كافية ليكتبوا قصصهم بأنفسهم، فنقرأ ما سجّلته "رقية" في هاتفها من مذكرات، وما كتبه "سهيل" من قصاصات. نجد خليطا من المذكرات الشخصية والملاحظات تنتظم بشكل فلسفي ولغة أدبية غاية في الشاعرية والجمال.

بقيت فتحية دبش حاضرة في كل مراحل السرد، بقي أسلوبها هو الأسلوب الرابط لكل مستويات الرواية، لم تتنازل عن أرستقراطيتها الأدبية لصالح أي من الشخصيات، رغم إعطائهم مساحة كافية للتعبير عن أنفسهم بأنفسهم. كل الشخصيات تنطلق منطلقاً فلسفياً وأدبياً راقيا، لا يرقى إلى مستوياتهم الافتراضية كما هم في الواقع. أي إن الراوية، وإن تخلّت عن دورها في السرد، فإنها ظلّت محتفظة بالأسلوب. فلا نلحظ أي فرق يذكر بين لغة الراوية ولغة رقية أو لغة سهيل، الأسلوب واحد واللغة واحدة، وذلك حافظ على المستوى الراقي للغة الرواية، لكنه يتعارض مع مبدأ الحوارية كما طرحه "ميخائيل باختين" الذي يشترط منح الشخصيات الحرية الكافية للتعبير عن أنفسهم بلغتهم الخاصة وأسلوبهم الخاص.

 

وعي الموضوع:

أما فيما يتعلق بالموضوع فإن رواية "ميلانين" تتخذ لنفسها موقعاً متقدما، موقعاً متميزا يتجاوز عقدة متأصّلة في الرواية العربية، هي عقدة الغرب/ الشرق، أو الشمال/ الجنوب، فهذه الرواية تتموقع في زاوية جديدة وموقع جديد، تقفز على هذه الثنائية وتتجاوز العقدة. كانت الحلقة الأولى قد بدأت مع "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح. وإذا كان الأدباء الثلاثة "قد قاموا بغزو" الغرب غزوا رمزياً مضادا، فينتهكون عرضه انتقاماً لاشعوريا لما فعله في الحقبة الاستعمارية، فان فتحية دبش تقدم الغرب كما هو بقيمه الحضارية والثقافية الراقية، بعيدا عن عُقد النقص ورغبة الانتقام. ومع ذلك فالرواية تقدم نقداً لاذعاً للمفارقة الحضارية بين الهويتين، إنها مآسي حدثت ضمن تاريخ طويل له ظروفه الخاصة؛ ليس من مهمة هذه الرواية الثأر للضحايا.

ما يميز هذه الرواية عن تلك المشار إليها أنها ليست مكشوفة أمام القراءة النفسية ودراسة اللاشعور مثل بقية الروايات؛ فلن يجد الناقد النفسي في "ميلانين" مادة تصلح للكشف عن لاشعور  موجّه لعدائية كامنة وغزو مضاد للغرب أو فتوحات شخصية تنتقم من الفتوحات العسكرية الغربية في الحقبة الاستعمارية، إن هذه الرواية تنظر إلى تلك القضايا بوعي حضاري جديد، وتعرضها في ثنايا الرواية بوعي المنصف الذي يمتلك قضية عادلة يدافع عنها دون أن يفرِط في انتقاد الآخر وتحميله وزر كل القضايا والمشاكل التي نعاني منها. 

تمتلك هذه الرواية قضية فنية، تتمثل في تقديم عمل روائي فريد، وتمتلك مجموعة قضايا تهم الإنسان، وأي رواية تتورط في القضايا والموضوعات تفقد بعض خصائص الفن، وهذا ما حرصت هذه الرواية على تجاوزه، فعرضت القضايا دون أن تخسر جمالية الأسلوب وتقنيات السرد. فلمسَت قضايا حساسة مثل الهُوية والهجرة والحرية، وقضايا النوع " الجندر" تفعل ذلك بأسلوب عذب وسلس، بعيداً عن التقريرية أو العرض التاريخي الممل.. إن فتحية دبش بهذه الرواية تخترق الصف الطويل للروايات العربية وتقف في المقدمة وفي أول الصف.

تعليق عبر الفيس بوك