عبدالنبي الشعلة
ما مدى تأثر المجتمعات والمؤسسات بالتقلبات والهزات المتتابعة الناتجة عن الاختراقات والاختراعات التكنولوجية المتسارعة وغيرها من التطورات والعوامل والأزمات؟ وهل تعتبر هذه الهزات من بين دوافع وروافع ومحفزات النمو؟ هذه هي الأسئلة التي حاول الإجابة عنها أكثر من 350 مشاركا من الخبراء والمهنيين والمختصين والمعنيين بهذا الموضوع في مؤتمر عُقِد في البحرين خلال اليومين الماضيين، وأتيحت لي فرصة المشاركة وإلقاء كلمة فيه.
وكان رأيي -كما كان رأي متحدثين آخرين- أنه لا مناص ولا مفر من حتمية حدوث مثل هذه الهزات وبالوتائر المتسارعة التي عهدناها، والتي أصبحت من أهم وأبرز سماتها، وأن الحكمة والحنكة تقتضيان الإيمان بمبدأ الحركة والتغيير، والتهيؤ لحدوثها وتقبل نتائجها، والاستعداد لاستيعاب وامتصاص إرهاصاتها وتردداتها، واحتضان ما ستفرزه وتوفره هذه الهزات من فرص وإمكانيات، والتعاطي مع هذه الفرص بمنظور إيجابي باعتبارها حالة مفضلة وبديلة عن حالة الركود والجمود.
وفي حقيقة الأمر، فإنَّ مُجتمعاتنا ومؤسساتنا في دول مجلس التعاون الخليجي، خصوصا الشركات ومؤسسات القطاع الخاص، ظلت خلال العقود الأخيرة وحتى الآن تتلقَّى وتواجِه موجات من الهزات والتطورات والأزمات، التي أكسبتها المناعة والقدرة على الصمود، وفرضت عليها ضرورة تدعيم أسسها وإعادة ترتيب اصطفافها وتشكيل هياكلها؛ لكي تتمكَّن من امتصاص واستيعاب هذه الهزات والتقلبات والاستفادة منها وتجنب سلبياتها.
فإلى جانب الهزات والإرباكات الناتجة عن هذا التدفق الهائل والمتسارع من المخترعات والمنتجات والأساليب والبرامج التكنولوجية الحديثة والمتطورة، خصوصا التكنولوجية الرقمية، فقد واجهت مجتمعاتنا ومؤسساتنا وشركاتنا ولا تزال تواجه ظروفا قاسية صعبة ناتجة عن أسباب وعوامل جيوسياسية وأمنية أدت لخلق حالات من عدم الاستقرار وتقلبات حادة في الأسواق؛ منها: تهديدات "تصدير الثورة" بعد نجاح الثورة الإيرانية في العام 1979؛ مما أدى لاندلاع الحرب العراقية الإيرانية التي دامت لثماني سنوات وألحقت ببلداننا خسائر وأضرارا اقتصادية بالغة، وخلَّفت وراءها أخطارا أمنية وبيئية مؤثرة، تبع ذلك اجتياح القوات العراقية لدولة الكويت واحتلالها بالكامل، وهي إحدى الدول الأعضاء المؤسسة لمجموعة دول مجلس التعاون الخليجي؛ مما فرض على باقي دول المجموعة بقيادة المملكة العربية السعودية النهوض والإسراع في تحريرها بالتعاون مع عدد من الدول الصديقة؛ فاندلع ما سُمِّي بحروب الخليج الثلاث التي كان نتيجة آخرها احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، والإطاحة بنظام حكم صدام حسين فيها؛ لتتوالى بعدها سلسلة من التطورات الخطيرة الدامية كتوسع الأنشطة التخريبية للحركات والمنظمات الإرهابية، وتمدد دوائر التهديدات والتدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية؛ مما أدى بدوره لنشوب حرب في سوريا وأخرى في اليمن، وحالة من عدم الاستقرار في العراق ولبنان...وغيرها من الدول العربية، إلى جانب علاقات متوترة مع النظام الحاكم في إيران وتحول منطقتنا إلى ساحة للصراع والمواجهات بين إيران والولايات المتحدة.
هذه التطورات بدورها ومنذ البداية أدت لتقلبات في أسعار النفط وتدني مداخيل دولنا وضغوط على ميزانيات حكوماتنا؛ مما اضطرها لمراجعة هيكلة اقتصاداتها وترشيد نفقاتها وإعادة النظر في تبويب مصروفاتها واستحداث أنظمة لوقف الهدر وتقليص قيمة الدعم للخدمات التي تقدمها للمواطنين والمقيمين، والشروع في استحداث نظام للضرائب، وهي إجراءات وخطوات أدت بطبيعة الحال إلى تراجع في القوة الشرائية للمواطنين والمقيمين.
وعلى الرغم من ذلك كله، فقد تمكنت المجتمعات والمؤسسات والشركات الخليجية من السباحة والعبور بسلام في هذا البحر المتلاطم بالتحديات؛ وذلك بفضل ما تمتعت به هذه المؤسسات من عزيمة وثقة ومقدرة على استشعار وتحسس مؤشرات المخاطر والمستجدات والاستعداد لها واستيعابها وإدراك حجم التحديات والاستفادة من الفرص والإمكانيات التي تفرزها؛ لذلك فإن الغالبية العظمى من مؤسساتنا وشركاتنا تمكنت من النجاة وتحقيق النجاح والنمو وتجنب المطبات، مؤكدة بذلك أن الأزمات تحمل بين جنباتها وفي طياتها الكثير من الفرص والإمكانيات.
هذه المحصلة الطيبة والمرضية لا يجب أن تدعو مجتمعاتنا ومؤسساتنا للاسترخاء، بل يجب أن تكون بمثابة النداء والحافز للجميع إلى الاستيقاظ والحذر، والاستمرار والبقاء على حالة التأهب والاستعداد لمواجهة المستجدات والتقلبات والتحديات التي لا مناص من حدوثها والتعامل معها بفعالية وثقة واقتناص الفرص التي تتمخض عنها.
وحتى نتجنَّب اتهامنا بالإفراط في التفاؤل وعدم الواقعية وتجاهل السلبيات التي نتجت عن كل تلك الهزات والتقلبات، فإننا لا بد أن نشير ونؤكد أن عددا لا يستهان به من المؤسسات والشركات الخليجية، خصوصا الصغيرة والمتوسطة منها عجزت عن مقاومة رياح وقوى التغيير فاندثرت وتم اكتساحها بعد أن تراجعت وانسحبت من ميدان المقاومة والمنافسة، فصارت درسًا وعبرًا لغيرها ممن ينظرون إلى تيارات وقوى التغيير على أنها مجرد أخطار وتهديدات تتطلب اتخاذ مواقع للدفاع ومواقف للمواجهة والتصدي لها ودحرها وعدم المبادرة باستيعابها غير مدركة أن الشيء الذي لا يتغير هو التغيير.
... إنَّ الحاجة لسرعة التعامل مع الهزات والأزمات والتفاعل مع المستجدات والتطورات لا تنحصر في نطاق المديرين والمسؤولين في المؤسسات والشركات، بل تتعدى ذلك وتصبح أكثر إلحاحًا بالنسبة للمسؤولين والقادة السياسيين.
وتجنبًا للإطالة والاستطراد في توضيح ذلك في هذه المساحة الضيقة؛ سنكتفي بالإشارة إلى التطورات التي تشهدها الساحة العراقية الآن، فقد اندلعت مع بداية الشهر الماضي مظاهرات كانت محدودة في البداية في شوارع بغداد تطالب بتوفير أبسط وأدنى الاحتياجات المعيشية الضرورية للمواطن مثل المياه الصالحة للشرب ومرافق للعلاج والعناية الصحية ومدارس وفرص عمل وما شابه، إلا أن المسؤولين لم يكترثوا ولم يدركوا أهمية وضرورة سرعة التحرك لاحتواء ذلك الوضع بالنظر جديًا في مطالب المتظاهرين والاستجابة لها والسعي الفوري لعلاج القضايا والمشاكل المطروحة، فتطور الوضع وازدادت أعداد المحتجين والمتظاهرين وامتدت المظاهرات والاحتجاجات إلى مدن العراق الأخرى، وأصبحت مطالب المتظاهرين تشمل محاسبة المسؤولين عن تردي الأوضاع وانتشار الفساد والمحسوبية والاصطفاف الطائفي، ثم ارتفعت سقوف المطالبات إلى إسقاط النظام وإنهاء الوجود والنفوذ الإيراني في البلاد، وحتى الآن فإنَّ النتيجة مئات القتلى وآلاف الجرحى والمصابين، وأن النظام الحاكم صار يترنح أمام ضربات وهزات التغيير التي لم يدرك أهميتها وخطورتها منذ البداية ولم يبادر إلى سرعة استيعابها ومعالجتها.