علي بن مسعود المعشني
يُعد الشاعر جمعان بن رمضان النوبي المعروف (جمعان ديوان) من أبدع وأشهر شعراء ظفار في العهود المتأخرة، وربما أغزر شعراء ظفار إنتاجا على الإطلاق، في الشعر الغنائي بكافة طبوعه وجميع أشكاله، حيث تميز بالجمل الوصفية الدقيقة والصور الشاعرية الجميلة والخيال الخصب، وترافقت شاعريته المرهفة مع موهبة التلحين، والتي جعلت أغلب قصائده تخرج في سياقات وجمل لحنية رائعة وشجية، وتتغنى بها الأجيال؛ ما أضفى على قصائده المعبرة وأكسبها الرسوخ والتأثير والإعجاب.
وقد قرض ديوان الشعر ولحّن في شتى الصنوف الغنائية الظفارية، من برعة ومدار وهبوت وزامل وربوبه وشرح وطبل نساء ودبرارت (هدهدة الأمهات لأطفالهن الرضع)، وتناول الحكمة والقضاء والقدر وحكمة الله في خلقه، وأبدع في التفاؤل والتنبؤات واستشراف المستقبل، والحث على الصبر وعاقبته الحميدة. عاصر حقبتين من الزمن إذ عاصر السلطان سعيد بن تيمور – رحمه الله – وأيضا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه-.
ولد جمعان ديوان بمدينة صلالة عام 1910م (تقريبًا) في عهد السلطان فيصل بن تركي آل سعيد – رحمه الله، وترعرع في بيئة مفعمة بالأمية والجهل وصعوبة العيش وقسوة الدهر والأيام. عاش أميًا ومات أميا – رحمه الله – وهذا ما يجعلنا نتوقف عند مواهبه الشعرية والألحان والطبوع الموسيقية التي خاض فيها بموهبة فطرية فذة، ورسخها في الوجدان الغنائي الظفاري والعُماني، والتي تستحق الدراسة والتوثيق العلمي بحق؛ للتوقف وللإنصاف لهذه الظاهرة الغنائية الفذة والتي شكلت مدرسة فنية وشعرية غنائية متفردة بحق. فعندما نقرأ سطور أبيات شعره نرى فيها البلاغة العظيمة وخبرة الأيام وغزارة الشعر بأسلوب جميل وأفكار مترابطه وصفاء ذهن نادر.
ولم تتوقف ظاهرة جمعان ديوان عند التطريب وغزارة الشعر بأنواعه، بل امتدت لتشمل الذاكرة الجمعية لظفار وتاريخها المعاصر، لما احتوته أشعاره من توثيق عفوي لأحداث ومراحل ومواقف عاشها المجتمع الظفاري، وبذا يمكن القول أنّ ديوان مارس دور المؤرخ والموثق بالنيابة عن المجتمع، ولم يكتف بدور الشاعر والمُلحن والموسيقي فقط.
أمّا قصة وراثته للشعر ونبوغه فيه، فقد نُسجت حولها أسطورة تقول إنّ والدة جمعان واسمها سلامة كانت من الشاعرات المتفردات في الفن الشعبي وخاصة في فن الطبل النسائي، وقيل أنّها قبل وفاتها بقليل - وكان يومها جمعان ابن 40 يوماً - كانت تنشد الشعر ووصلت لحالة غريبة من نشوة الغناء فأخذت تضرب جبهتها بجبهة ولدها جمعان الذي كانت تحمله على ذراعها ويقال أنّ جمعان يومها وهو ابن الـ 40 يوماً كان يضحك كلّما تلاقت جبهته بجبهة أمه، لذا يظن الكثيرون أنّ هذا الحادثة كانت اللحظة الأولى لارتباط جمعان ديوان بالشعر والغناء.
وبغض النظر عن حقيقة هذه الحادثة ومدى صدقيتها وواقعيتها، فالنتيجة والدليل أنّ ديوان تفرّد وتربع على عرش الشعر الغنائي الظفاري – ومازال – وبلا منازع بجدارة واستحقاق. ولعلّ أبدع وأغرب ما قاله جمعان ديوان كان في الشعر التنبؤي، والذي فاق الوصف، سواء تحدث عن الحال الجمعي لظفار وأهلها ومستقبلهم بعد المعاناة وضائقة الحال، أو حين تحدث مع نفسه وعنها، ويمنيها بالفرج والرخاء واليسر والراحة والثراء، بعد الضيق والفقر وضيق ذات اليد، وهو ما شهده وعايشه أغلب الظفاريين ممن عايشوا وتناقلوا أشعار ديوان في أزمنة الشدة والرخاء، فتذكروا وتذاكروا مما قاله ديوان في حياته وبعد مماته كذلك، في فقره وغناه ومن خلاله حالهم وأحوالهم وذواتهم، ومن أمثلة تنبؤاته الشعرية قوله مخاطبًا ابنته عنوة ومبشرًا لها بمستقبل واعد ورخاء للأسرة حيث يقول:
عنوة تشابه على الملكة *** لا هي كسيفة ولاحتكه
لها قصر مبني من الشركة *** تنشح جنيات من البهوة
ومعنى القصيدة أن ابنته عنوة ستصبح كالملكة، وستلبس الملابس الجميلة والنظيفة وتسكن بمنزل لائق ومرموق، وسترمي جنيهات الذهب من شرفة منزلها كدلالة على اليسر وتبدل الحال والجود، وقد صدقت نبوءته وتحققت في العهد الزاهر ونال شخصيًا فوق ما تمناه وحلم به، وكما نالت ظفار والظفاريين كذلك.
الحكمة والتنبوء في أشعار جمعان ديوان:
قصيدة (50) روبية
يالله طلبتك راجيين العافيه * يا عظيم الشان انت تنطلب
خمسين روبيه معانا باقيه * باشحن بها مركب وبانول (1) خشب
وباشتري لي من الزوالي الغاليه * وباخذ بها موتر والتاير ذهب
وباخذ بها خنجر جديده غاويه * وباخذ بها بندوق من عز السلب (2)
وبابني لي بيت حلوه زاهيه * وباخرّج الصدقات في أول رجب
وبافتح بها معيان (3) ونخدم ساقيه * وبازرع لي باغ (4) أشجار وعنب
وباخذ بها خادم وتحته جاريه * إذا ساعد الرحمن والمولى كتب
وباواصل السير إلى السيوح الخاليه * وباخذ بها بكره (5) لي ما ترتكب
ولين لها أهل القلوب القاسيه * وأمشي بها دغري ولا قلبي رهب
واقلب بها المره تقع لي حاليه * وكذا يفعل الدرهم إذا قلتوا كذب
واقطع بها أهل الرقاب العاصيه * وانهب بها الشجعان لي ما تنتهب
واسكن الدنيا تقع لي هاديه * والقرش هو يفعل ويطلع نسب
مشت مراكب للسما المتعاليه * خمسين تجني مال وتوظف رتب
وهي أصلها خمسين ما وصلت مئه * ويتعجبون الناس لله العجب
هذا فعال القرش وبيتي التاليه * واختمتها بك يا شفيع العرب
رحم الله جمعان ديوان رحمة واسعة ، وتقبله مع الأصفياء من عباده .
معاني المفردات:
1=(النول): الكراء أو الإيجار والإستئجار للراحلة والسفينة وأي وسيلة نقل.
2=(السلب): السلاح بدارجة أهل ظفار، وبعض مناطق جنوب اليمن.
3=(معيان): عين ماء
4=(باغ): بستان
5=(بكره): الناقة الصغيرة والتي تقوى على السير والحمل ومشاق السفر.
قبل اللقاء: أما آن الأوان لتكريم ذكرى هذه القامة المُبدعة والقيمة الفنية العالية بأن يُطلق اسمه على شارع أو قاعة أو صالة فنون أو مسرح؟!
وبالشكر تدوم النعم..