مالآت جاذبية الغرب الفكرية!

عبد الله العليان

كانَ للغرب في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الماضيين، إعجاب كبير بالغرب، وجاذبية لافتة، من النخب الفكرية العربية، ما سمي بـ"صدمة الغرب"، أو يعد الاحتكاك معه، وبرز عن هذه النخب الانبهار الشديد، بمظهر التقدم الكبير الذي حدث في أوروبا، والفارق الهائل بيننا وبينهم، خاصة بعد إرسال الكثير من البعثات الدراسية للغرب الليبرالي، التي شجعها الغربيون أنفسهم، بعد احتلالهم للكثير من الأقطار العربية، بعد الحرب العالمية الأولى، والشيء الذي يثير الاستغراب أن هذه البعثات الدراسية، لم توجه إلى دراسة العلوم والتكنولوجيا الحديثة، بل تم توجيههم إلى ما يسمى بـ"العلوم الإنسانية"؛ مثل: الفلسفة، وعلم النفس، والاجتماع، والتاريخ، والأدب، وهذه التخصُّصات، لا تفيدنا في وضع العالم العربي، الذي كان يعيش تخلفاً وتراجعاً على كل المستويات، وهذه بلا شك، رؤية مُرتبة للاستتباع والإلحاق ليس إلا؛ لكي نبقى في نفس المربع وتلك الزاوية، ويتم اختراقنا في المؤسسات المؤثرة للتأثير، كالجامعات والمؤسسات الفكرية والثقافية، وأثرها على الوعي والإدراك.

وفي كتابه "ملامح المستقبل"، للمؤلف والمفكر د. محمد حامد الأحمري، طرح في أحد فصول هذا الكتاب ما عنونه بـ"نهاية جاذبية بالغرب الفكرية". أشار د.الأحمري في مقدمة هذا العنوان، إلى مقال لأحد الباحثين الغربيين، من أن "عصر النظريات الكبيرة التي اجتاحت أقسام العلوم الإنسانية في القرن العشرين؛ من أمثال نظرية التحليل النفسي، والماركسية، والبنيوية عصر قد ولى، وهذه النزعة التي تقرر نهاية النظريات ونهاية التاريخ، ونهاية الأفكار، والاستسلام الجبري للمستقبل هي ملامح مهمة في حياة عصر مختلف عن عصر التطلع والكتابة والتفاؤل، وهي نذير ركود فكري كبير، يتبعه ركود في بقية جوانب الحياة". ويستطرد د.الأحمري في هذا الجانب عن مسألة التغيرات والتحولات التي تشهدها البشرية، بصورة متسارعة في دول العالم، إيذاناً بأفكار جديدة تجوب ما قبلها أو تغير ملامحها تماما، فيقول: "وليست القدرة النقدية للثقافة الغربية قادرة على إيقاف تيار الانهيار الذي تعانيه؛ فهي بمقدار ما تستطيع أن تؤجل سرعة السقوط؛ فإن العصر السريع في كل شيء يعطي مؤشراته السريعة في الانهيار. فعصر السرعة لا يرتبط فقط بسرعة الإنتاج والنماء، وسرعة الوصول للمستهلك للصورة وللكلام وللطعام والزينة، بل هو سريع أيضاً في الجوانب السلبية والإيجابية كلها، وما كان عمراً لمدينة قديمة قد لا يكون عمراً مديداً يوازي ذلك الذي قضته حضارة أخرى وهي تحتضر". وأضاف الأحمري في فقرة أخرى لتوضيح فكرة انتهاء الجاذبية الفكرية للغرب التي كانت حديث الشباب وانبهارهم، وقبول فلسفاتهم دون النظر لنقد هذه الفلسفات؛ فهذه مرحلة غائبة تماما، فيقول: "لم تعد هناك الجاذبية الفكرية التي كنا نشهدها قديماً للفكر الغربي، فأين الفلاسفة والأدباء الذين لطالما بحث عنهم المسلمون وتلقفوا كتاباتهم وآرائهم ونشروها، ولم يعد إلا الظاهرة الحرفية المتوارثة، حرية الرواية، وحرفة الصحافة، وحرفة مدرسي الفلسفة، وصناع الإستراتيجية التنفيذية". ولا شك أن الذي أفاد الغرب الليبرالي/الديمقراطي، هي قضية الحريات، وتأثير قدرة النقد على المراجعة للكثير من السياسات، وحققت إيجابياتها في تأخير السقوط، وبلورة الكثير مما يُشكل خطراً للنظم الليبرالية، بعد انتشار الأفكار الاشتراكية، لكن د.الأحمري يتحدث عن ما لاقته هذه النظريات، التي لها اللمعان في نظر الكثير من الأجيال الماضية، وكانت تتسابق عليها النخب لطرح أفكارها؛ باعتبارها "نهاية النهايات"، في الأفكار وأطروحات الحداثة وما بعدها، فيرى د.الأحمري أن: "الجاذبية التي تكون الحضارات ومهاوي قلوب الأمم ضعفت وتراجعت اليوم. وغابت الرموز الثقافية التي تجذب احترام المثقفين وعشاق الكتاب والمجلة والبرنامج الثقافي، التي كانت تصنع للدول الغربية والمجتمعات النصرانية بريقاً ثقافيًّا خلابًا. ضعفت الحركة الفكرية الفرنسية التي اعتادت أن تقدس المفكرين وتشهرهم، وضعفت الثقافة الإنجليزية والفلسفة والأدب". ويرى د.الأحمري أنه حصلت الكثير من التغيرات الفكرية في النفس الإنسانية عند شعوب مختلفة، وأثر الثقافة في هذه النزعة تجاه فكر الآخر وثقافته، ومن هذه المنطلقات كما يقول د.الأحمري: "ثمّثل معاصرونا من الغربيين والشرقيين، ودرسوا حضارات أخرى، ثم تبرأوا منها لاحقاً. وطبيعة المرحلة كثيراً ما تحدِّد الموقف من المخالف. والحضارة العربية مثال مهم على هذا، وموقف الغرب منها؛ إذ كانت هي الحضارة التي قام عليها الغرب، وتمثّل منها وأخذ وأنكر الكثير بحثاً عن ذاته. وتجاهل واستخف بالحضارة الإسلامية إمعاناً في التميز، وبعد عصر الثقة جاء عصر الاستشراق، ومع انهيار التوهج الفكري خفتت أهمية الفلسفة والعلوم العقلية والروحية، وانتهى معها الاستشراق المعرفي، ليقوم الاستشراق السياسي التجسسي الاستعماري، لصالح المؤسسة السياسية والمؤسسات التجسسية". وأشار الأحمري إلى ازدواجية الغرب ومعاييره ومقاييسه، في الكثير من السياسات والمواقف التي تحتاج للإنصاف والعدل، مع أنه كثير النقد والاتهام للكثير من الدول، التي تمارس نفس المعايير؛ لذلك يقول د. الأحمري إنَّ: "حرية النقد شعار يرفعه الغرب، وفجأة أصبحت حريات التعبير قيمة مطاردة في الغرب، وفي أمريكا تحديدا، ويتحدث اليساريون الأمريكان بمرارة عما يواجهونه في بلادهم من تضييق، أصبحت حرية الرأي تقل ويضعف وجودها، وتهيمن الجاسوسية على الشعب (:)، ويضطر الطلاب العرب -في أمريكا- لأن يُثبتوا أنهم يحبون الغرب، ويذكرون قصصاً تثبت ذلك، وهذه النزعة -كما يقول الأحمري- في قتل حريات الناس هي أسوأ المسارات التي تدخل فيها الدول، وهي المرض الذي أسهم في سقوط روسيا وغيرها من قبل". وهذه القضية التي طرحها الأحمري تحتاج إلى مراجعة صحيحة بعيداً عن "الأنا والآخر"؛ لما يحدث في عالم اليوم من تحولات فكرية وسياسية، بعضها لا شك يُشكل أزمة للسلام والاستقرار في عالم اليوم.