الاتجاهات المستقبلية للبحث العلمي

 

د. حيدر أحمد اللواتي

أستاذ مشارك، قسم الكيمياء، كلية العلوم - جامعة السلطان قابوس  

 

أصبح البحث العلمي أحد الأمور الهامة والاستراتيجية لدى الكثير من دول العالم فلقد تولدت قناعة لدى الكثير من المفكرين أن البحث العلمي هو السبيل الواعد لمستقبل مشرق لأية دولة تسعى بجد أن توفر حياة كريمة ومرفهة لشعوبها.

 

الا أن التحدي الكبير والسؤال الصعب الذي يواجه المهتمين هو أين يجب توجيه بوصلة البحث العلمي بحيث يلبي طموح الدول ويؤمن مستقبلها؟

 

في بداية الأمر لابد من التفريق بين نوعين من البحوث النوع الأول تلك التي تحاول أن توجد حلولا لتحديات تواجه الدول في الوقت الحالي والنوع الآخر من الأبحاث والتي لا تنظر إلى التحديات والمشاكل الحالية؛ بل تنظر إلى اتجاهات وفرص البحث العلمي المستقبلية الواعدة والتي تحقق الرفاه والمستقبل الواعد للدول.

إن من أكبر التحديات التي تواجه البحث العلمي هو أن الكثير من موارد البحث العلمي تصرف على تحديات آنية تواجه الدولة والحال أن البحث العلمي من أهم سماته أنه يحاول أن يستشرف المستقبل ويوجه بوصلته الى تحديد الاتجاهات المستقبلية التي يجب أن يستثمر فيها لتكون للدولة قصب السبق بها وتنال ثمار استثماراتها البحثية.

 

وهذا لا يعني عدم الاهتمام في التحديات الحالية وصرف الموارد البحثية عليها، إلا إننا نعتقد أن غالبية هذه التحديات يمكن أن نجد لها حلولا من خلال نقل الخبرات والتقنيات من الدول التي سبقتنا في مجالات البحث العلمي ولهذا فهذه البحوث ربما أغلبها تقع ضمن ما يعرف بنقل التقنية (Technology transfer) ولا يمكن عدها استثمارا بحثيا ولهذا فهذه البحوث لا يمكن عدها بحوثا استراتيجية يعول عليها لمستقبل الدول.

 

إن البحوث الاستراتيجية هي التي تستمد رؤيتها من التاريخ البشري والثورات العلمية التي أوصلت البشرية على ماهي عليه اليوم وتنطلق من قراءة لمستقبل البشرية ورؤى ثاقبة وخبرات واسعة لتحدد الاتجاهات المستقبلية للبحث العلمي والتي يكون الاستثمار فيها مجديا ويعود بالنفع على الدول التي تستثمر فيه.

 

وفي هذه المقالة سينصب حديثنا حول هذه البحوث العلمية والتي نعتقد أن لها أهمية كبيرة وستعود بالنفع على الدول التي ستستثمر بها وستقودها الى مصب الدول المتقدمة في مجال البحث العلمي.

 

لا شك أن الاستثمار في مجالات الطاقة أمر في غاية الأهمية حيث أن العالم يتجه الى التقليل؛ بل واستبدال الطاقة الإحفورية بأنواع أكثر صديقة للبيئة ولهذا فمن الخطأ الاعتقاد بأن التحدي الوحيد الذي يواجه هذا القطاع يتمثل في نفاذ النفط أو الغاز اذ لم يعد الأمر كذلك إنما هناك اتجاه عالمي باستبدال هذه الطاقة بطاقة بديلة ولهذا فحصر الاستثمار في إيجاد طرق مبتكرة لزيادة الإنتاج قد يكون مفيدا على المدى القريب والمتوسط ولكن لا يمكن عده استثمارا مستقبليا واعدا لأن الإشكالية ليست في توفر النفط فحسب بل في التحديات البيئية التي تواجه القطاع النفطي وفي الانخفاض الملحوظ في كلفة الطاقة البديلة ولهذا فعلينا أن نوجه البحوث العلمية في اتجاه تخفيض كلفة إنتاج النفط ليكون منافسا للطاقة البديلة في المستقبل المنظور كما أن علينا الاستثمار في مجال تخفيض الآثار البيئية السلبية الناتجة عن استخدام الطاقة الإحفورية، بالإضافة إلى الاستثمار في بحوث الطاقة البديلة.

 

وهناك وفرة كبيرة في الخيارات الحالية بخصوص الطاقة البديلة ويحتم علينا ذلك القيام بدراسة متأنية لتحديد أنواع الطاقة البديلة المناسبة والتركيز على صنفين منها والتي يجب أن يتم الاستثمار بهما بدل الاستثمار في مجالات متعددة والتي تؤدي إلى استنزاف الموارد المالية المتاحة للبحث العلمي.

 

ويمكن أن نعد البحوث البيئية من البحوث المستقبلية الواعدة والتي لابد من الاستثمار بها، لأن العالم بدأ يدرك التأثيرات السلبية على مختلف المجالات والناتجة عن الاستخدام المبالغ فيه للموارد الطبيعية والذي يؤدي الى استنزاف هذه الموارد كما أن استخدام المنتجات المضرة بالبيئة يؤثر بشكل كبير على صحة الانسان ويجبر الدول على تخصيص موارد ضخمة للقطاع الصحي، ولهذا فان توفير ميزانيات مخصصة للبحوث البيئية سيكون له أكبر الأثر على تخفيض الموازنات الضخمة التي تصرف على القطاع الصحي.

 

إن المجالات التي تناولناها هي التي نظن أن لها أهمية بالغة على المدى المنظور والمتوسط وعلينا السعي في الاستثمار البحثي فيها الا أن هذه البحوث ستقل قيمتها مع الوقت لأن النشاط البحثي فيها قطع شوطا جيدا ومن المتوقع أن تؤتي الأبحاث في هذا المجال ثمارها في المستقبل المنظور، فالسيارات الكهربائية والهجينة باتت واقعا معاشا كما أن البحوث في مجال إيجاد بدائل بيئية للبلاستيك – مثلا - على قدم وساق.

إننا نعتقد أن البحث العلمي الاستراتيجي على المدى البعيد يجب أن يوجه باتجاهات معينة من أهمها الذكاء الصناعي و البحوث المرتبطة بعلم النفس والأمراض المرتبطة به وأخيرا البحوث المرتبطة بالتقنية الحيوية، حيث إن هذه المجالات تعد من أهم المجالات البحثية على الاطلاق وعلى الرغم من أن البحث العلمي في مجال الذكاء الصناعي قطع أشواطا كبيرة إلا أن هناك مازال الكثير من الفرص المتاحة في هذا الشأن، حيث إن ما يعرف بعلم البيانات الكبيرة وفرت بيئة خصبة وسهلت المنال لتوفير هذه البيانات والاستفادة منها في تنمية البحوث المرتبطة بالذكاء الصناعي فالمتوقع أن الروبوتات وتطوير اللوغاريتمات الرياضية اللازمة لعملها سيغزو العالم عن قريب ولهذا فالدول التي استثمرت وما زالت تستثمر في هذه التقنية ستأمن لنفسها مستقبلا واعدا، حيث إن الروبوتات ستتواجد بكل مكان من حولنا ولا يستبعد المرء أن يقابل أعدادا كبيرة من الروبوتات يوميا أكثر من البشر في المستقبل القريب.

 

ومع توفر هذا الكم الهائل من التقنيات المعتمدة على الذكاء الصناعي فإن هذه التقنيات ستوفر معلومات هائلة عن حالته الصحية والنفسية وعن ساعات نومه ونوعية نومه وهل نومه كانا مضطربا؟ وستتوفر له تقنيات تكشف له السعرات الحرارية الموجودة في كل وجبة يتناولها وماهي مكونات هذه الوجبة؟ وأثرها على وضعه الصحي وهل تناسب ذوقه أم لا؟ وهكذا ستزيد التطبيقات الشخصية في مختلف المجالات العلمية ولهذا يعد البحث العلمي في هذا المجال من أكثر المجالات التي ستوجه لها الكثير من الجهات البحثية اهتماما متزايدا.

 

الا إن توفر هذا الكم الهائل من المعلومات قد يكون له ضرر بالغ على الكثيرين وسيزيد من الضغوط النفسية على الانسان وهذا سيولد حاجة ماسة الى من يتفهم مشاعره وأحاسيسه والتي تعجز عن فهمها الروبوتات ، إذ أن الملاحظ في تطوير بحوث الذكاء الصناعي عجزها عن الولوج في الوقت الحالي بالأمور المرتبطة بالقضايا النفسية للإنسان فالمشاعر والاحاسيس وادخالها في البحوث المرتبطة بالذكاء الصناعي مازالت في بداياتها، كل هذه الأمور ستولد احتياجا كبيرا تجاه البحوث النفسية.

 

ويعد الاستثمار في بحوث التقنية الحيوية من أكثر مجالات البحث العلمي أهمية فعلى الرغم من أن البحث العلمي فيها قطع أشواطا جيدة إلا أن هناك فرصا كبيرة جدا؛ بل إن البحث العلمي يعد في التقنية الحيوية متأخرا إذا ما قورن بمجالات الذكاء الصناعي.

 

إن التطور في تقنيات الحيوية يهدف في الأخير الى أن يصل مدا متطورا جدا بحيث يمكن دمج القدرات التي يتميز بها الدماغ البشري من قدرات ابتكارية وابداعية وما يرتبط بالوعي والادراك مع القدرات الرياضية وقدرات التحليل الرياضي وقدرات حفظ المعلومات والبيانات والذكاء الصناعي التي ستتميز بها الروبوتات المستقبلية، وسيؤدي ذلك الى تكوين روبوت هجين (حيوي / تقني) يمتلك قدرات أقرب الى الخيال العلمي، ومن هنا لابد من التركيز في البحوث الاستراتيجية بعيدة المدى على هذا النوع من الأبحاث ، والتركيز أيضا على الأبحاث التي تحاول الربط بين التقنيات الحيوية والذكاء الصناعي.

 

وهناك صنف آخر من البحوث ويمكن استثمارها بشكل ذكي وهي ما تعرف بالبحوث الاستراتيجية المساندة كالبحوث في مجال الاتصالات والتي سيكون لها أثر بالغ في المستقبل القريب وعلى المدى البعيد وذلك لأن أحد التحديات المستقبلية الهامة لها ارتباط وثيق بالاتصالات وهو التواصل بين الروبوتات والنظم البيولوجية، كما أن المتوقع أن تلعب البحوث المرتبطة بتقنية النانو والطابعة ثلاثية الأبعاد، دورا هاما في مجالات الاتصالات أو مجالات التقنية الحيوية أو الذكاء الصناعي.

 

إن الاستثمار في البحث العلمي أصبح أمرا لابد منه ولا يوجد منفذا للتخلص منه ولكن الاستثمار فيه دون رؤية واضحة وتحديد لأولويات البحث العلمي يمكن أن يؤدي إلى استنزاف الموارد المالية المتاحة دون أي مردود واضح.

 

 

 

                                       

تعليق عبر الفيس بوك