قصة قصيرة: "رثاء النثر"

 

خليل بوبكر| موريتانيا

 

عندما كانت الشمس تعانق الأفق لإعلان غروبها كان أحمد يغط في نومٍ عميق على غير عادته فـفتح ليَ نافذة الحلم..تحسستُ الصوت الذي يخترق قضبانها فإذا به يهمس في أذني:

سأكذب من أجلك كثيرا ياصديقي عندما تغادرني بلا عودة، سأستأجر أحد جيران الحي ليشهد بأن صوتَ تلاوتك كان يوقظ الحي في الليلة الثامنة من كل أسبوع، وبأنه اطَّلع عليك في الثلث الأخير من الليل وأنت غارق في السجود، ولأنك لاتحب اللحم سأقول بأنك لم تأكل غيبة قط..سأكتب مذكراتك بكل خشوع وكأنك المجدِدُ الذي بعث في آخر مائة سنة، سأقيم وليمة للمتسولين وأخبرهم بأنك كنت تنفق عشر آواقٍ من كل عشرون، وسأخبر تلامذة الحي بأنك كنت ذلك الرجل الذي يقلهم كلما مر عليهم في الطريق إلى العمل...

* انا لا أعمل يا احمد

- و من أتى بك إلى هنا

* ضاربة الرمل

- آه، أتعلم ياصديقي لقد تحديتُ الواقع و رثيتُكَ في حين أنكَ لا تزال على قيدها!

* أما أنا يا أحمد فقد تحديتُ الكتاب

- بماذا؟

* بـ "رثاء النثر"

- أتحفني ببعض منه..!

*حسنا، لقد قلتُ ذات يوم:

"عندما رحلت بدونِ عودةٍ كان عزائيَ الوحيد في الغرام بكَ أن الحب بعدد النظرات لا بعدد السنين، لذلك نظرت إليك جيدا في لقائنا الأخير الذي أزحتَ فيه العمامة عن جبهتكَ العتيقة المحجلة بنور السجود فتتبعتُ آثار خطاك في طريق الكادحين ذات زمان غابرٍ من تاريخ دولتنا الثكلى بأمثالك من عظماء، فالعظماء عندما يرحلون ولو لحين، لا يملأ فراغهم سوى الذكريات..وذكريات العظماء وفية لهم لذلك ترحل معهم بكلِ موقفٍ و متاع، حتى تَبْـيَضَ أعيننا و يتلاشى الشعاعْ و نبقى منفصمين كالقطة السوداء بين القطط الشهباء، منبوذةٌ و ترمقها نظرةُ اللامبالاة، فترتدي السواد لتقيم حفل عزاءٍ في الذاكرة و لتعلن حداداً مؤقتا تنعى فيه الذكريات الراحلة كنوعٍ من الإيمان بالقدر..أيها العظيم أنا لازلتُ أملك نفس الأحلام التي حدثتك عنها ذات يوم فأجبتني: "يابني لكلِ مولودٍ قابلة، والليل هو قابلة الأحلام." لم يَجِـنَّ الليلُ بعد ولازلتُ أنتظرُ الظلام ...أتذكر يا أبي يوم قلت لي "بأن أحدنا عندما يصبح شاعرا يصيرُ نصف أمة"..لقد أصبحتُ كاتبا وصرتُ ربعها فقط ولكن كلماتي موسيقية جدا و أكثر غوايةً من كثيرِ شعرٍ متجافية قوافيه، ولأنكَ غالٍ جدا ولا تُقَدرُ بما تحتويه مناجم العالم من ذهب، لا زالتْ ذكراكَ تنتشرُ في أعماقي كما ينتشر الصينيون في العالم فأنتَ عريقٌ جدا كـ حضارة اليونان، بهيٌ جدا كاليومِ السادس من الأسبوع والشهر الأول من الشتاء، لقد كنت الربيع في موسم الأمطار و المطر في زمن الخريف و الخريف من فصول السنة و السنة النصفُ من كلِ عقدٍ و العقدُ الجميل من كل جيل و الجيل الذهبي من كل أمة والعربُ من بين الأمم لقد كنت الإقدام إذا ما حل بالقومِ خطبٌ، وكنت العزاء والبكاء إذا ما مات فينا حبٌ ولو أن الكلمات تكفي لوصف مايغمرني من اشتياق لروحه الخالدة لأمطرتُكَ  بوابلٍ من المفردات والبلاغة والأشياء ولكن...! لا ينفع الكلام عندما يرحلون و لا التباكي عندما يغيبون، فلنكتفي بدمعة على الخد الأيسر و نمسحها بسبابتنا لنبلل الورق و نرميه فريسة للرياح علَّ الأوراق تأتينا بـ بقبسٍ من ملامحِ أبي أو أجدَ على الحنين هُـدًى"

-ولكنَ أبوك لم يمت بعد لترثيه!

* وأنا لم أمت بعد لترثيني!

تعليق عبر الفيس بوك