فلسفة الإدارة وبناء دولة المؤسسات

حاتم الطائي

النهضة المباركة تستهدف بناء الإنسان المُتسلّح بالعلوم والمعارف المتقدمة

ثنائية التنمية وبناء دولة المؤسسات شعاعان متوازيان يضيئان مسيرة النماء

فلسفة إدارة شؤون الدولة ترتكز على رؤية استشرافية سامية

 

 

ترسّخت أركان الدولة العمانية الحديثة بقوة على مدى عقود النهضة المباركة في مسيرتها الحافلة بالعطاء والإنجاز، وما كان لأعمدة هذه النهضة أن تقوم وتُشيَّد دون فسلفة إدارية ذات أهداف سامية ووفق رؤية ثاقبة تستشرف المستقبل وترتكز على مبادئ وقيم عمانية أصيلة، وهذه الأهداف وتلك الرؤية صاغتها الحكمة القابوسية المنيرة، التي أضاءت الدرب لجموع العمانيين لكي يشمِّروا عن سواعد الجد والإخلاص في العمل، من أجل بناء وطنهم ووضعه في مصاف الدول المتقدمة.

والرؤية السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- وضعت في مقدمة أولوياتها ملف التنمية، وباتت التنمية بشموليتها ومساعي استدامتها محور انطلاق مسيرة النهضة الظافرة، بل إنّها استحالت الركن الأساسي وحجر زاوية هذه النهضة، التي على أساسها دقت ساعة العمل في كل قطاعات الدولة.

ومواصلة لسلسلة المقالات النوفمبرية، أواصل اليوم استقراء التفاصيل والأبعاد المتعددة لملف التنمية، وأرى أنّ هذا الملف أُدير بحكمة دقيقة وببصيرة نافذة، استطاعت أن تضع مختلف جوانب التنمية في مسارات متوازية، فلم يطغَ قطاع على آخر، ولكن مضت التنمية في ربوع البلاد تمهد الطرق وتشيّد مؤسسات التعليم من مدارس وجامعات معاهد متخصصة، ومؤسسات صحيّة من مستشفيات ومراكز طبية وعيادات في كل بقعة من بقاع هذا الوطن، من أجل بناء إنسان متسلح بالعلوم والمعارف المتقدمة ومتمتع بالصحة الكاملة والقدرة على الإنجاز والعطاء.. كل ذلك والعمل يتواصل في بناء دولة المؤسسات والقانون.

وفلسفة الإدارة التي صاغتها الحكمة القابوسية استندت في جوهرها على بُعدين؛ الأول: إيصال التنمية لربوع السلطنة دون توقف، والبُعد الثاني: بناء الجهاز الإداري للدولة، وكلا البعدين شكلا منظومة التنمية الشاملة والمستدامة في بلادنا. وما يميز هذه الفلسفة- فضلا عن عُمقها وتأثيرها الفاعل في المجتمع- أنّها واقعية وتتماشى مع معطيات الظروف، وتتلاءم مع كل المراحل والفترات التي مرّت بمسيرة نهضتنا، فلم تكن هذه الفلسفة يومًا معقدة حد استحالة التطبيق بل كانت مثالية في واقعيتها؛ حيث مزجت بين الأصالة العمانية التي توراثها العمانيون على مر القرون، وبين قيم المعاصرة والحداثة التي نهل جلالة السلطان المعظم- أيّده الله- من علومها ومعارفها خلال مراحل النشأة الأولى وما تلاها من دراسة في الخارج في أعرق الكليات العسكرية في العالم، إلى جانب الخبرات المتتالية في فنون السياسة وبناء الدولة والتفكير الاستراتيجي.. كل هذه العوامل صقلت المعارف السلطانية لدى المقام السامي، وساهمت في بلورة الرؤية الفلسفية لجلالته في إدارة شؤون الدولة وقيادة مسيرة التنمية بكل جدارة وإتقان.

وعند الربط بين ثنائية التنمية وبناء دولة المؤسسات، يعتقد البعض أنّ ثمة تعارض قد يقع أو أن إشكالية بنيوية قد تنشأ، غير أنّ الواقع المُثبَت في نهضتنا الشاملة برهن غير ذلك، فكانت التنمية وبناء دولة المؤسسات شعاعين متوازيين يضيئان مسيرة التطوّر والنماء والتقدّم. وكانت البداية في هذه المسيرة متمثلة في كيفية تدبير النفقات العامة للدولة، وتحقَقَ ذلك عبر الإدارة الرشيدة لعمليات استخراج الثروات المعدنية، والاستعانة بالخبرات العمانية المهاجرة، التي عادت إلى أرض الوطن لتسهم بسواعدها المخلصة في عملية البناء والتشييد. ومن ثمّ تواصلت المسيرة وتعمّقت التجربة العمانية رويدا رويدا، ووُضعت البنى الأساسية الكفيلة بانطلاقة تنموية لم تشهدها عمان على مر تاريخها، وبات المواطن ينعم بالرخاء والتنمية، وتساوى في ذلك المواطن القاطن في العاصمة مع أخيه الذي يسكن القرية في كل أنحاء عمان.

ومن هنا نستطيع أن ندرك قيم النهضة المباركة التي تشكلت من وحي التنمية، فالمساواة والعدالة من بين أكثر القيم وضوحا على مدى عقود التنمية، فلم تفرق الحكمة السامية لجلالة السلطان في مشروعات التنمية بين ولاية وأخرى، أو بين شمال وجنوب، بل كانت يد التنمية مبسوطة في ربوع الوطن، تشيد مدرسة هنا وتبني مستشفى هناك. كما نال الرجل والمرأة والطفل والشيخ أنصبة متساوية من الحق في التنمية، فالجميع شرب من نهر التنمية الذي شقّ عمان من أقصاها إلى أقصاها.

قيمة أخرى من قيم النهضة يمكن قراءتها من خلال التطوّر التدريجي لمسيرة الشورى العمانية، والحرص السامي على إشراك المواطنين في صناعة القرار؛ حيث كان الحق للمواطنين والمواطنات في انتخاب من يرونه مناسبًا لتمثيل ولايتهم في مجلس الشورى، وبالتالي المشاركة الضمنيّة في دعم مؤسسات الدولة في عملية صنع واتخاذ القرار.

الجانب الآخر من الثنائية التي نحن بصدد الحديث عنها، هي بناء دولة المؤسسات، والتي كما ذكرنا أنّها مضت في مسارٍ موازٍ؛ وهذا البناء أقيم على قواعد متينة، وعبقرية فلسفة الإدارة لدى المقام السامي والمُرتكزة على رؤية استراتيجية وضعت أهدافا كبرى نجحت في الوصول إليها مع كل عام تتقدم فيه مسيرة النهضة حتى باتت تقترب من عامها الخمسين الآن. فمن وزارة أو اثنتين إلى قرابة ثمانٍ وعشرين وزارة إلى جانب الهيئات والمؤسسات الحكومية، كلٌ في مجال تخصصه، منقسمة إلى وزارات وهيئات ومؤسسات سيادية وخدمية وتنموية، يجمعهم هدف واحد ألا وهو التنمية.

وقد مرّت عملية بناء الجهاز الإداري للدولة بمراحل مختلفة، اعتمدت نهج التدرّج والتحوّل المرحلي المدروس والقائم على فقه الأولويّات، ولم تكن سياسة الدولة في يوم من الأيام تسعى إلى حرق المراحل أو القفز على المعطيات، وهو ما شكل الضمانة الأساسيّة لاستقرار المسيرة ورسوخ التجربة العمانية حتى باتت نموذجا يُستشهد به في المحافل التنموية الدولية. فكم من مؤسسة دولية وإقليمية أشادت بما تحقق من نهضة شاملة، وكم من وفود أجنبية جاءت إلينا للوقوف على التجربة العمانية في الإدارة وبناء دولة المؤسسات وتطوير الكوادر الوطنية، وتلك الأخيرة كان لها نصيب وافر من التنمية. فالرؤية السامية آمنت بدور الإنسان المواطن في التنمية، وسعت بكل جهد أن تصقل مهارات الكوادر الوطنية وأن تعزز من خبراتها، عبر برامج التأهيل والتطوير والتدريب الوطنية، والتي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، وكان آخرها البرنامج الوطني لتطوير القيادات التنفيذية في القطاعين الحكومي والخاص معًا، وهو البرنامج الذي يُجسّد الاهتمام السامي لجلالة السلطان المعظم- أيّده الله- بموضوع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ويؤكد أنّ مسيرة العطاء والتقدّم تتطلب تضافر جهود القطاعين وتبادل الخبرات.

إنّ فلسفة إدارة شؤون الدولة وبناء مؤسساتها تمثل جوهرة التاج في مسيرة التنمية الممتدة منذ عام 1970، فعلى أساسها مضى قطار التنمية في محطاته المختلفة بمختلف الولايات، ووفق الرؤية الفلسفيّة العميقة لنهج الإدارة السامية لبلادنا تحققت المنجزات، واستطاع المواطن أن يقطف ثمار التنمية، وتمكّنت الدولة العمانية الحديثة من وضع أقدامٍ راسخة في ركب الحضارة المدنية المعاصرة، وبإذن الله تعالى تتواصل المسيرة في عامها الخمسين الذي أشرفت شمس أولى أيامه أن تشرق علينا لتضيء بأنوارها الذهبية أعواما وأعواما.