حديث العقل والقلب في نوفمبر المجيدة

 

د. عبدالله باحجاج

بعد أسبوع من الآن، سيحتفل وطننا بعيده الوطني "49" عاما، فماذا ينبغي أن نفتخر به بعد هذه المسيرة الوطنية الطويلة نسبيا؟ وماذا ينبغي أن نتأمله في مستقبلها في ضوء مجموعة تحديات كبرى تواجه العالم عامة ودول المنطقة خاصة؟ فمفهوم العيد وفلسفته في بلادنا ننظر لهما من منظور قلبي وعقلي معا وفي ان واحد، وذلك لدواعي صناعة الإجماع بماهية الإنجاز الحقيقي الذي تحقق في بلادنا من جهة، وتعزيز هذا الإجماع في القناعات السياسية والاجتماعية لدواعي الديمومة من جهة ثانية.

ومن هنا سنعمل الفكر كعادتنا في مثل هذه الأيام الوطنية، أيام نوفمبر المجيدة، على استغلال مثل هذه الوقفات التاريخية لمخاطبة العقل والقلب على المجمع عليه، والإشارة الى طبيعة التحديات التي ينبغي العمل على مواجهتها حتى نحافظ على المجمع عليه، وجعله خطا أحمر على كل مواطن ومسئول وعلى كل سياسة مالية واقتصادية.. وإعلان شأنه في أيام نوفمبر المجيدة، من بين كبرى الدواعي الوطنية لأنه مهد لمسيرتنا الوطنية تأسيس دولة حديثة ومجتمع متماسك ومتضامن رغم تعدد جماعاته المحلية وتنوع محتواه الفكري.

ومن أيام نوفمبر المجيدة، ننظر ليوم "18" منه، بذكريات تتزاحم وتتقاطع داخل ذهنية الفرد والجماعة، الولاية والمحافظة، الساحل والجبل والوادي والصحراء.. لتصور لنا ملامح العهد القديم، وكيف انتقلنا إلى العهد الجديد الذي أسسه قائد نهضة هذا الوطن جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله- في كل شبر من وطننا المترامي الأطراف، وهي ملامح يلمسها المواطن والمقيم والزائر، وهم الذين سنستعين بهم لتحديد ماهية هذا المنجز أو الإنجازات المجمع عليها.

ولنستفتِ القلوب بالتساؤل التالي: بماذا تشعر الآن من أحاسيس وهي على أية بقعة ترابية من الوطن؟ واطرحوا على عقولكم كذلك التساؤل التالي، ما هو الإنجاز الأول الذي يفتخر به كل عماني مهما كانت تموقعاته فوق ترابنا الوطني؟ لن تختلف القلوب رغم أنّها منطقة المشاعر والعواطف المتقلبة، على الأمن والأمان، وهذا بالإجماع، ولن تختلف العقول كذلك التي هي منطقة القناعات التي تختلف من فرد لآخر، على منجز السلم الأهلي، وارتباط العمانيين بوطنهم والتمسّك بهويتهم وعقيدتهم المعتدلة، وهذا أيضا بالإجماع.

ومن يكون في بلد، هكذا خصائصها البنيوية، وهكذا طبيعة مكونها الديموغرافي، فماذا ينبغي أن يكون شغله الشاغل الدائم؟ هذا التساؤل نطرحه الآن بقوة في مرحلة إقليمية مكوناتها الديموغرافية متحركة، وثوابتها متغيرة، ووراءها أجندات تستغل المتحرك والمتغيّر لغايات سياسية لم تعد مجهولة.

ومن المؤكد، أنّ الحفاظ على إجماع القلوب والعقول يجب أن يحتل قمة الأولويات الوطنية، لأنّ مرحلة تأسيسه لم تكن سهلة حتى أصبح خيار الجميع "قلبا وعقلا" رغم ما قد يطرأ من خلافات بشرية، أنّه الآن خيار عقلاني متأصل بقناعة الحالة التاريخية لما قبل عام 1970، ومحصن بسياسة "عفا الله عما سلف" أي أنّ دولتنا المعاصرة لم تترك وراءها أية صراعات أو ثارات قد تضرب هذا الإجماع.

وهنا إعلاء شأن لهذا المنجز والتذكير به، وجعله مرجعية ثابتة للعمل الوطني في كل مراحله المختلفة مهما كانت التحديات الداخلية والخارجية، هاجسنا هنا الجيل الجديد، فهل أسسنا ذهنيته بذلك التاريخ الذي كان فيه استعمال العنف يطال الشقيق ضد شقيقه ضمن صراع الأيديولوجيات، ولنا تصوره – أي العنف – مع الآخرين، وهذه المرحلة راسخة في أذهان الجيليين ما قبل السبعين وما بعده، لذلك من الدواعي تمرير هذا الرؤية في أيام نوفمبر المجيدة لغاية رفع سقوف الوعي عند الكل، المسؤول والمواطن، حتى لا يغيب عنهم هذا الخط الأحمر.

فبالوعي تدوم المسارات الوطنية الثابتة، وبالوعي يحسب العقل الحسابات الصحيحة قبل انفجار العواطف والمشاعر التي يكون وراءها ضغوطات حياتية صعبة، قد أصبحت الآن مرتفعة بسبب سياسات مالية وتحولات اقتصادية تلقي بظلالها على معيشة المجتمع.

واذا سلمنا بهاجس الجيل الجديد، فإن خطوطنا الحمر سالفة الذكر، تدعونا من تجليات نوفمبر المجيدة، ومن ترقب كل مواطن ليوم "18" المقبل، الإسراع إلى الانفتاح على أهم ملفات الشباب كحزمة واحدة في اطار تنفيذي وزمني مبرمج، ومسئول عنه لجنة رفيعة ومشتركة من كل التمثيليات بما فيهم مجلس عمان "الشورى والدولة" دون الانتظار للكيانات الجديدة التي غرقت في آجال زمنيّة طويلة، كالمركز الوطني للتشغيل، فهذه الملفات لا تؤجل كقضايا الباحثين عن عمل وفرص العمل عن طريق المناقصات والعقود المؤقتة والمرتبات غير المنتظمة شهريًا للكثير من العاملين في القطاع الخاص وأوضاع الموظفين المثيرة للجدل...إلخ.

وتلكم القضايا تشكل فعلا تحديا حقيقيا على المرحلة الراهنة، ولا ينبغي أن تؤجل أو الرهان على تحقيقها ضمن رؤية عما 2040، وانطلاقتها من أيام نوفمبر المجيدة، ستكون لها دلالتها ومعانيها الزمنية والسياسية، وقد عودتنا مثل هذه المناسبات على ارتباط نوفمبر بانفراج الكثير من المسارات العالقة أو إحداث تطورات في المسارات، فهذه استحقاقات اجتماعية ينبغي أن تكون مستقلة عن الاستراتيجيات طويلة الأجل أو الخطط متوسطة الأجل.

صحيح أن رؤية عمان 2040، تحتوي الكثير من الحلول الوطنية، لكنها طويلة الأجل، بينما مثل تلكم القضايا لن تنتظر المدد الزمنية، فمثلا، ففي محور الإنسان والمجتمع "تستهدف الرؤية مجتمعا، إنسانه مبدع عبر التعليم الشامل المستدام والنظام الصحي الرائد بمعايير عالمية ومجتمع معتز بهويته وثقافته وحياة كريمة مستدامة للجميع، أمّا محور الاقتصاد فيركز على اقتصاد المعرفة ذي البنية التنافسية عبر تعزيز التنويع وإفساح مجال أكبر للقطاع الخاص ونظام فعال للبيئة وتنمية شاملة جغرافيا وسوق عمل جاذب وقيادة اقتصادية ديناميكية، وفي محور الحوكمة تسعى إلى حكومة مرنة تقدم الخدمات بأفضل وأسهل طريقة وتطبيق إلا مركزية وشراكة متوازنة ومنظومة تشريعية تشاركية.

وهذا يعني أنّ الرؤية تستهدف تحديث وتطوير الوطن من منظور شمولي وعلى مدى زمني طويل، لكن، حديثنا العقلي والقلبي يدفع بنا إلى التأمل في التحديات الراهنة الضاغطة، والتطلعات الاجتماعية نحو نوفمبر المجيد، لتتعاظم أفراح الوطن، وتقترن وجوبا بهذا الشهر الذي ولد فيه مؤسس نهضة عمان، ومفكرها وقائدها -حفظه الله ورعاه-.

"49" عامًا، والتطلعات تتجدد نحو إنجازات مباشرة تمس جوهر المنجز الثابت المجمع عليه "عقلا وقلبا" وفي آجال زمنية فورية لا مستقبلية، فهذا كبرى التحديات التي تستنطقها مرحلة الفرحة الوطنية بالعيد الوطني المجيد في إطار عقلانية تعاطيها مع التحديات المختلفة، ومن "49" عاما، نخرج منها بقناعة كاملة غير منقوصة، وهي أنّ استمرارية المنجزات الوطنية الكبرى غير المادية على وجه الخصوص، يتوقف كذلك على مسألتين هامتين هما فكر المنفذ، وآليات التنفيذ، من حيث أطرها وكوادرها، وفلسفة منظومتها، ووفق المرجعية الوطنية ذاتها التي أسست لنا وطن الأمن والأمان، وطن ارتباط الوطن بوطنه عبر توارث جيل عن جيل متجذرًا في أعماق التاريخ، متزامنا مع ولادته، لذلك يستحق منا هذا الوطن الأفضل الكامل، والوفاء والإخلاص المطلقين.

وفي العيد الوطني السنوي المتجدد، نرفع آيات الشكر والحمد التامين والكاملين لله جلّ في علاه على وطن الأمن والأمان، وطن السلم الأهلي، وندعوه جلّ جلاله أن يديم علينا هذه النعم الكبرى، وأن تتوالى أعيادنا، وحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم وهو في كامل صحته وعافيته، والشعب العماني في رفاهية وتقدم وازدهار، إنّه سميع مجيب الدعاء.