ثورة الصَّبايا

سالم بن نجيم البادي

عزيزتي ريتا تذكرين جيدا لقاءنا الأول في الساحة الواسعة بمدينة البندقية، كنتُ أحمل همَّ غُربتي وحيدا، وكُنتِ بين مجموعة من النساء، سحنتك عربية: شعرك الأسود الفاحم، وعيناك السوداوان، ووجهك الضاحك كله، اقتربت منك وسألتك: هل أنت عربية؟ "نعم ومن لبنان" - قُلتي والدهشة بادية عليك، تبادلنا أرقام الهواتف، بعدها زرتك في لبنان، وكلما جاء موسم المطر تقولين لي: "تعال إلى بيروت (عم تشتي)".

أعلم غرامك بالمطر، وجدتك متفائلة ومليئة بحب الحياة، ثرثرتك لا تتوقف، وتحلمين بلبنان ما قبل الحرب الأهلية، بيروت باريس الشرق، نزار قباني، وبلقيس العراقية، وفيروز جارة القمر (حبيتك بالصيف.. حبيتك بالشتي)، الأرواح المتمردة، وجبران خليل جبران، وغادة السمان، لا بحر في بيروت، مع ليل الشتاء، وبيروت نسهر حتى آخر الليل، وهل ينام عاشق في ليالي بيروت؟ المقاهي والشوارع والحانات...!

أتذكرك الآن يا ريتا بعد غياب ثلاث سنوات، حين أرى الصبايا يخرجن في المظاهرات، ينثرن الجمال والألق بين ثنايا المظاهرات، ورغبة جامحة في العيش الكريم، يصنعن من المآسي بهجة لا حدود لها، طائر الفينيق يعود حيا بعد الموت أو السبات الطويل، والصبايا بين الحشود أسراب ظباء وكرنفال ورود وزهور، يهطل المطر والثلج يطهر القلوب والأرواح من الطائفية والمذهبية والمناطقية، كان هذا حلمك المبكر يا ريتا تصرخين: "ليش نحنا غير كل ها العالم؟": طوائف ومحاصصة وزعماء وزعران ولصوص وحرامية.. كنتِ غاضبة جدا، نمت الزبالة بدل الشجر، وصار الأرز حزينا، والشواطئ باكية من التلوث.

ثورة أو احتجاج أو حراك.. لم نتفق على التسمية بعد، لا يهم، نريد التغيير وشوارع بيروت وطرابلس تضج بالحياة فرحا وطربا ورقصا وألوانا من أزياء النساء الزاهية، جمال وغنج ودلال وروعة وفتنة الصبايا، أعراس وحفلات سهر وشعب يحب الحياة، وسلاسل بشرية من الصبايا تمتد عبر الشوارع كأنها عقدٌ من الياسمين.. تعلمين نفوري من السياسة يا ريتا وجهلي بدهاليزها، فررتُ من بيروت ذات سنة إثر أحداث افتعلتها أحزاب متصارعة، نزلت إلى الشوارع تستعرض عضلاتها، قلتي عني إني جبان "وفليت" من شدة الخوف.

ثورة الصبايا في لبنان المقترن دوما بالجمال والرقة وحتى اللهجة اللطيفة المحببة لهجة أهل لبنان.. مشاركة المراة اللبنانية بكثافة في المظاهرات أظهرت موجة من التعليقات المرحة في مواقع التواصل الاجتماعي؛ فمِنَ القوم من يعد العدة للسفر إلى لبنان، ومنهم من يلتقط الصور ومقاطع الفيديو من الشاشات وينشرها، والرسوم الساخرة مثل تلك المراة التي تربط زوجها إلى رجلها بقيد من حديد وهي نائمة حتى لا يذهب إلى لبنان.

هل تعلمين يا ريتا، الصبايا في لبنان شغلن الرجال في العالم العربي وأثَرْنَ غيرة النساء؟

سأخبرك الان عن أولئك الذين يسيئون إلى نساء لبنان المشاركات في الحراك، وحتى نحن الذين نتعاطف معهن، يتهموننا بالشبق والمراهقة والدعوة للسفور والفجور.. حسنا يا ريتا لن نلتقي هذا العام، وسنعود يوما حين تتحقق مطالبكم التي خرجتم إلى الشوارع من أجلها.