العرب أمام سيناريوهات الحرب والسلام 2-3

 

عبيدلي العبيدلي

 

 

 هناك الكثير من الاجتهادات التي تحاول أن تبحث في أصل ظهور مفهوم السيناريوهات، وأسس تصوراتها، لكن هناك أيضًا شبه إجماع على أن "هيرمان كان (15 فبراير 1922 — 7 يوليو 1983) "كان من أبرز المستقبليين في الثلث الأخير من القرن العشرين. ففي أوائل 1970 توقع نمو اليابان لتصبح قوة عالمية عظمى. ولذلك أسس مركز معهد هدسون للأبحاث. ثم برز كاستراتيجي عسكري   عندما كان يعمل في مؤسسة راند (RAND Corporation) في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان معروفاً بتحاليله للآثار المحتملة في حالة نشوب حرب نووية. وقدم توصيات لتحسين سبل البقاء في حال اندلاعها".

وربما يوجد من يسئ فهم الغرض من بناء السيناريوهات، ولا يملك القدرة على استيعاب الغاية التي تقف وراء تلك الجهود التي تبذل من أجل وضع سيناريو أو مجموعة من السيناريوهات من أجل استقراء الواقع الذي يسعى الفرد أو تسعى المجموعة لبناء يبيح تصور معالمه أو مآلاته. 

وحول هذا الموضوع يرد في دراسة قام بها الباحثان سعد العنزي ويعرب السعيدي، تقول "ليست الغاية النهائية التي تسعى السيناريوهات الوصول إليها هي التنبؤ أو التوقع أو تخمين المستقبل، بل تكوين مجموعة من الحالات المستقبلية الممكنة التي تمتلك إمكانية حدوث متساوية. وبهذا ستكون السيناريوهات موجهة نحو استشراف المستقبل، بهدف التعرف على الاحتمالات الممكنة من خلال معرفة الأشياء المؤكدة، والحتمية والأشياء غير المؤكدة. وبهذا فإنَّ السيناريوهات تحاول الإجابة عن التساؤلات: ماذا يحدث؟ وكيف يحدث؟ وما هي العوامل التي تسبب الحدوث؟ .... (على أن) الخطوة الأكثر أهمية تكمن في ردة فعل الإدارة، وفي كيفية الإفادة من هذه النتائج".

ولعل في هذا التعريف المُبسط لمفهوم السيناريوهات الإجابة الصحيحة والشافية التي تكشف السر الكامن وراء فشل مختلف "الإدارات العربية" في الاستفادة من السيناريوهات التي توضع أمامهم، التي غالباً ما تحفظ داخل الأدراج المغلقة، أو تأخذ طريقها إلى سلال المهملات.

فتحويل السيناريوهات من مجرد تصورات تخلقها دوائر البحوث، ومراكز الدراسات، إلى خطط استراتيجية، أو برامج عملية، هي في حد ذاتها مركب مختلف، بحاجة إلى آليات أخرى.

الباحث شافع محمد النيادي، في بحث له حول السيناريوهات يتطرق إلى قضية مهمة فيما يتعلق بأهدافها التي يحصرها، على نحو مكثف، في أربعة استراتيجية هي:

 "عرض الاحتمالات والإمكانات والخيارات البديلة التي تنطوي عليها التطورات المستقبلية كما تكشف عنها السيناريوهات المختلفة.

 عرض النتائج المترتبة على الخيارات المختلفة في السيناريو وتركيز انتباه متخذي القرار في الفاعلين الرئيسيين واستراتيجياتهم، وفي العمليات أو العلاقات السببية، والنقاط الحرجة.

 تمكين الجماهير من التفكير في كل الأمور المتعلقة بالمستقبل واستثارة النقاش فيها واستدعاء وردود الفعل في شأنها.

 التوصل إلى توصيات في شأن الخيارات والقرارات، التي ينبغي اتخاذها، من الآن للوصول إلى الوضع المستقبلي المرغوب فيه، بعد فترة زمنية محددة".

وهناك محاولات عربية كثيرة حاولت التأصيل لمفهوم السيناريوهات من بينها ما جاء به الباحث حسن محمد وجيه، في كتابه الصادر في العام 2004، عن دار النشر "المكتبة الأكاديمية"، حاملا عنوان "العقل العربي والعقل الأمريكي ... إلى أين؟!... دراسة مستقبلية من منظور لغويات التفاوض".

وفي مقدمة مقتضبة لهذا الكتاب، الذي يأتي في إطار سلسة متكاملة، يقول كاتب تلك المقدمة أحمد شوقي، "إن كل مثال وكل نموذج تحليلي... يستحق التوقف أمامه لاستيعاب الدروس المتعلقة بمعضلات التواصل والسياسة، ومحاولة حل الإشكاليات التفاعلية، وتدشين لغة التفاوض الإيجابي عبر الثقافات بأسلوب منهجي".

مثل هذه الدراسات وأخرى غيرها، تكشف ولوج العقل العربي، وإن كان متأخرا بعض الوقت، مقارنة مع دول أخرى، بما فيها دول صغيرة نامية من أمثال تايوان وماليزيا وسنغافورة، التي بات لها باعا في هذا العلم من العلوم الإنسانية.

لكن الولوج لا ينبغي أن يعني، الإلمام بهذا العلم، أو القبول بقوانين تطبيقاته. وهذا ما يجب التنبه له عند الحديث عن واقع كتابة السيناريوهات التي من شأنها استقراء الاستراتيجيات في المنطقة العربية.

هذه الإشارة مصدرها الرغبة في التحذير، وفي وقت، قد يعتبره البعض، مبكرا، للذهنية العربية، المرتكزة على ثقافة، ربما تتضارب، مع آليات بناء السيناريوهات، التي ستجد أمامها، عند الحديث عن البلدان العربية، العقبات التالية:

مقاييس آلية جمع المعلومات والحقائق، وهي خميرة المواد الأولية التي يحتاجها فريق البحث الذي سيتولى بناء السيناريوهات. فهناك معايير علمية لا يمكن المساومة عليها، تتطلب أن يخضع نفسه لها من يتولى جمع مثل تلك المعلومات. وهذه مسألة ما تزال مثار خلافات. إذ، كثيرا ما تجد مؤسسات البحث العلمي نفسها أمام خيارات صعبة، تصل في أحيان كثيرة إلى القبول بتضحيات، تقود إلى تشويه النتائج المستخلصة من تلك المعلومات التي جرى جمعها بمقاييس غير مقيسة.

حق الوصول إلى تلك المعلومات، بطرق سهلة، وبكلفة منطقية. فمن أجل إشاعة ثقافة كتابة السيناريوهات المستقبلية، لا بد من توفر منظومة القوانين التي تبيح وصول من يسعى إلى تلك المعلومات لها في الوقت المناسب، وعبر الطرق الشرعية المتاحة. ففي غياب مثل تلك الحرية المسؤولة، تتحول تلك المعلومات إلى ما يشبه الجثث المحنطة، التي تنخفض قيمتها إلى أدنى من قيمة الأماكن، أو الأوعية التي نحفظ فيها.

مسؤولية النشر، وهي مسؤولية معقدة، لا بد للعرب من التوصل إلى نظام عصري يحدد أسس ومقاييس مسؤولية نشر سيناريوهات، أو حتى توقعات، ما يمكن حصوله، سواء في الحاضر أو المستقبل.

كل ذلك يقود إلى أن هناك ضرورة لم يعد في الإمكان التهرب منها، إن كان للعرب نية صادقة في تحفيز همم من يسعى لبناء سيناريوهات احتمالات الحرب والسلام التي تنتظرهم. ففي غياب مثل تلك المنظومة، او التلاعب بأي من أركانها، ستكون مدخلات كتابة مثل تلك السيناريوهات غير كاملة، ومن الطبيعي أن تكون مخرجاتها ناقصة.