المشهد العسكري الجديد في سوريا

جمال الكندي 

المشهدُ العسكريُّ في شمال شرق سوريا يصبُّ قالبًا في مشروع الدولة السورية الموحَّدة، هذه الدولة أراد الخارج -بكل مكوناته العربية والخليجية والدولية- تفتيتها عبر ما يُسمَّى بـ"الربيع العربي".

المشروع أثبت فشله بعد صراع سياسي وعسكري، قادته بكل كفاءة واقتدار الدولة السورية مع من يحمل أجندة تفتيتها وتقسيمها؛ فالمشروع الصهيوأمريكي في محافظة القنيطرة الذي كان يراد منه إقامة خط فاصل بين الدولة السورية والأراضي التي تحتلها إسرائيل في الجولان العربي السوري، عبر مسلحي جبهة النصرة، ليكونوا بؤرة استنزاف للجيش السوري، فشل بتحرير كامل محافظة القنيطرة.. المشروع الآخر كان عبر مُسلَّحي الغوطة الشرقية والغربية، الذي أُريد منه تهديد العاصمة دمشق، وابتزازها سياسيًّا، فشل هو الآخر بتحرير كامل ريف دمشق الشرقي والغربي مع الجنوب السوري، وسقطت بذلك أكبر مشاريع تقسيم سوريا.

ما يحصُل اليوم في شمال شرق سوريا من تبدُّل المشهد العسكري هناك بتخلِّي أمريكا عن الأكراد وانسحابهم عن بعض مواقعها العسكرية يُثبت للكردي أنَّ أمريكا تلعب لعبة الاصطفاف السياسي والعسكري حسب مصالحها؛ لذلك فإنَّ المكوِّن الكردي في سوريا استند إلى جدار مائل، وهنا يحضُرني قول أحد الرؤساء العرب السابقين؛ حيث قال: "المتغطي بأمريكا عريان". وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" عرتها أمريكا، ولحافها الوحيد هو حضن الدولة السورية.

قوات "قسد" الجناح العسكري للأكراد في سوريا، سيطروا على جزء من التراب السوري بمباركة ومساعدة أمريكية، وأصبحوا على تماس مع الأتراك، ولكن هنالك صراع سياسي وعسكري مع حليف أمريكا الآخر في سوريا؛ ألا وهو التركي، الذي يراقب الوضع في شمال شرق سوريا، ويعقد الصفقات والتفاهمات مع الأمريكي؛ لإجهاض أي كيان كردي تشكل له مقومات الدولة في هذه المنطقة. هُنا لعبت أمريكا على الحليفين وأرادت أن تعطي هذا وذاك وترضيهما حسب المعطيات على الأرض، فتارةً تقف مع الكردي سياسيًّا وعسكريًّا، وتارةً أخرى تسمحُ بعملية عسكرية يقوم بها التركي في معاقل قصد والذريعة هي الحفاظ على أمنها القومي.

المشهدُ العسكريُّ في شمال شرق سوريا بعد انسحاب القوات الأمريكية، وانكشاف ظهر "قسد" غير من الخارطة العسكرية هناك، وأصبحت السيطرة لقوات الجيش العربي السوري على هذه المواقع وهذا المشهد كان متوقعاً في ظل الازدواجية السياسية والعسكرية في تعامل أمريكا مع الحليف الكردي والتركي، ومن الطبيعي أن يلجأ الأكراد إلى الدولة السورية بعد أن تخلت عنهم أمريكا.

لذلك؛ كان على قوات "قسد" خياران لا ثالث لهما، وهما: إما قتال الجيش التركي ومن معه من المسلحين الموالين لتركيا بدون مساعدة أمريكية، أو طلب المساعدة من دمشق والتنازل عن مطالبهم كفيدرالية مستقلة عن الدولة السورية، وأن يحل الجيش السوري مكان "قسد" وتسقط بذلك ذريعة أردوغان في محاربة الانفصاليين الأكراد، وهذا ما حصل ونشهده اليوم من دخول الجيش العربي السوري إلى مناطق واسعة من ريف الحسكة وريف الرقة.

مما سبق ندرك أن أمريكا ترسم خيوطها السياسية بين الأكراد والأتراك حسب مصالحها الجيوسياسية في المنطقة وقرارها الأخير بالانسحاب من بعض المناطق السورية، وترك قوات "قسد" وجهاً لوجه مع الجيش التركي هو ناتج سياسة المصالح التي تلعبها أمريكا؛ فتركيا بالنسبة لها حليف مهم على المدى القريب والبعيد، وهنالك تفاهمات كبيرةً بينهما رجَّحت الكفة التركية مع وجود خلافات أمريكية تركية؛ من أهمها: توقيع تركيا صفقة "إس- 400" مع الجانب الروسي.

ما حصل من تطوُّر عسكري في شمال شرق سوريا يعدُّ درساً للأكراد بأنَّ الأمريكي حرباء التلون السياسي، والطرف التركي لا يقدر أن يفعل أي شيء إذا كان الأكراد ضمن منظومة الدولة السورية؛ فهي الحامي لمناطقهم الحدودية مع تركيا.

مشروع تقسيم سوريا بأدوات كردية سقط الآن في شمالها وشرقها وعلى الأكراد الرجوع سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا إلى الدولة السورية؛ فهناك أطماع أمريكية بالسيطرة على منابع النفط والغار في شمال شرق سوريا بحجة حماية هذه الحقول من سيطرة داعش مرة أخرى، وقد ذكرت وزارة الدفاع الروسية أن لديها أدلة رصدتها أقمارها الصناعية بتهريب النفط السوري خارج سوريا تحت حراسة أمريكية وبعلم الأكراد، وما يُؤكد ذلك عبور قافلة عسكرية أمريكية قادمة من العراق لحماية هذه الحقول بالتعاون مع قوات "قسد".

بهذا تستفيد أمريكا بأنها لم تخسر التركي وتخلت عن دعم قوات "قسد" في مواجهتها مع الجيش التركي، ولم تخسر الكردي بسيطرتها معه على مصادر الطاقة في سوريا؛ أملاً منها بتغيير المعادلة السياسية مرة أخرى لصالح الكرد عبر البوابة الاقتصادية، وهذا يعني أن الأكراد ما زالوا يعولون على الحليف الأمريكي رغم ما حصل منه.

وفي المقابل، فإنَّ الدولة السورية لن تقبل إلا بالسيطرة على مناطق شمال شرق سوريا كاملةً بما فيها الحقول النفطية، وليعلم الأكراد أنَّ اللعبَ على جميع الحبال سيخنقها ويخرجها من المشهد السياسي السوري نهائيًّا، ووحدة سوريا لن تكتمل إلا بالسيطرة على كل أراضيها شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً، وأي مشروع آخر مرفوض، وتصريحات الرئيس الأسد الأخيرة في ريف إدلب هي العنوان القادم للجيش العربي السوري، وهذا ما يعلمه الطرفان الكردي والتركي وحليفهما الأمريكي جيداً.