علي بن مسعود المعشني
Ali95312606@gmail.com
المشهد العربي اليوم يمُوج بحراك يُمكن أن نسمِّيه بالحراك الوطني الواعي، والحراك المشروع في هذا المفصل التاريخي، مقارنة بالربيع العربي المباغت عام 2011م، والذي كان كل جهده ينحصرُ في اختراق الدولة الوطنية وإسقاطها والإبقاء على هياكل الدولة مرهقة وممزقة وهشة، وصولًا إلى مرحلة التحلل التدريجي والإجهاد المنظم؛ للوصول إلى حالة مثالية من رعاة الربيع وأدواته الواعية واللاواعية لإعادة إنتاج الدولة الوطنية الرخوة، والقابلة للتشكُّل منزوعة عن ثوابتها وهويتها الكبرى الجامعة.
فحِرَاك اليوم في تقديري في الوطن العربي هو الحراك الواعي بضرورة التغيير وحتميته، واستلهام العبر من الربيع المشؤوم، وتجنب عثراته، واستنطاق واع لمسار ومراحل وهوية وأطوار دولة الاستقلال العربي، وهذا ما لاح لنا في تونس والعراق ولبنان والجزائر والسودان. فلكل قُطر من هذه الأقطار إرث سياسي بلغ في مجمله حد العُرف المقدس، إرث نال مرتبة "الشرف" في إعاقة نمو الدولة وتشظي مكوناتها، وأنتج جملة من الظواهر السلبية كمنظومات الفساد والمحاصصة والزبونية السياسية والالتفاف المعيب حول الهويات الفرعية، إرث أنتج الإقطاع والتوريث والمحاباة وحماية الفساد والمفسدين، وأنتج أحزابا عائلية وثقافة الدولة المزرعة الخاصة.
لا يُمكننا الحديثُ عن المستقبل دُون مُحاكمة الماضي والحاضر أولًا؛ كون المستقبل في الأساس هو الوليد الشرعي لمحصلة الماضي والحاضر؛ وبالتالي لا يُمكننا الظفر بمستقبل أفضل من حاضرنا ما لم نتمكَّن من فرز الحاضر والبناء على إيجابياته، وتجنب إعادة إنتاج عثراته. ما يوجب البحث والتأمل اليوم في هذا الحراك العربي، هو انقلاب المعايير وجذرية المطالب لما هو أبعد من المعيشة، إلى ضرورة إعادة هيكلة الوعي، ومن خلاله هيكلة الدولة والمجتمع معًا.. فإذا سلمنا بأن الربيع الأول كسر الحاجز النفسي، وأوصلنا إلى درجة الحريات المفضوحة وغير المنضبطة في كثير من الأحيان، فإن هذا الحراك تعدَّى الحاجز النفسي وتجاوز المطالب المعيشية، وارتقى إلى سقف تناول "المحرمات" السياسية والحديث عنها بصوت عال وبجرأة تاريخية غير مسبوقة.
شخصيًّا، لم أكن أتصوَّر أن أستمع في حياتي لشقيق من السودان يتحدَّث عن مثالب هيمنة قطبي السياسة في السودان حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي من قِبل شباب سُوداني وعلى شاشات فضائيات رسمية، ولم أكُن أتصوَّر أن يُسقط الشقيق التونسي الأيديولوجيا العصية في الانتخابات وعبر الصناديق وينتخب البرامج، ولم أكُن أتصوَّر أن يُنادي الشقيق اللبناني بضرورة زوال الطوائف والطائفية والطائف معًا من المشهد اللبناني، ولم أكن أتصوَّر أن يُنادي الشقيق العراقي بإسقاط المحاصصة، والتي تعني تكريس الطائفية وإعادة إنتاج لبنان آخر، ولم أكن أتصور أن يُنادي الشقيق في الجزائر ويُجاهر بهُوية الدولة وضرورة الانتقال من الثورة إلى الدولة.
جميع هذه المظاهر والظواهر في تقديري تُشكل أدوات وعي ظرفي خلاق ومهم للغاية للوقوف على المعضلات الحقيقية لدولة الاستقلال العربي، وفي فضح ومحاكمة جملة من الوصفات الكاذبة والمضللة للشعوب، وعلى رأسها الحرية والعدالة والديمقراطية كشعارات دون تفاصيل أو ممكنات للفهم والتطبيق.
فالمُعضلة الجذر في تقديري لدولة الاستقلال العربي تكمُن في الهُوية أولًا، هذه الهوية التي يمكن البناء عليها لاحقًا كل مثمر من وجهي الدولة العصرية التقني والفكري. فغياب توصيف هوية الدولة وماهيتها جَعلنا نتشبَّه بغيرنا ونمارس طقوس وترانيم لا تُشبهنا ولا تليق بنا، واستهلكنا كل شيء من حولنا إلا الأشياء التي تُشبهنا؛ وبالتالي أهملنا حاجاتنا الحقيقية وسعينا خلف حاجات الآخرين. ويُمكن لأي دولة عصرية أن تستورد وتقلد الآخرين في بنائها التقني بالتقليد والمحاكاة، لكنها لا يُمكنها على الإطلاق بناء وجهها الفكري من خارج هويتها وتجاوزًا لحاجاتها الحقيقية والمُلحة.
يتبيَّن لي اليوم من ملامح الحراك العربي أن هناك إصرارًا واعيًا بضرورة إعادة إنتاج واقع عربي يُشبهنا، واقع يجفف منابع الفساد بصورة جذرية وبأدوات حقيقية من زبونية سياسية ومحاصصة وتحزب وتبعية وارتهان للخارج وعبث واتجار بثوابت الوطن من عروبة وإسلام، وعي يقرأ بعمق حقيقة المرض والمعضلة ويراهن على ضرورة تحمل ألم الجراحة اليوم لبتر كل تلك المثالب الدخيلة علينا، والتي شتَّتت جهودنا وفرقت وحدتنا ومزقت أوطاننا وكرَّست فيها كل بذور التشظي والتحلل والفناء، وشكلت مناخًا مثاليًّا للخصوم والوصوليين والانتهازيين وتجار القيم والثوابت للاتجار بالوطن وقيمه، وأنبتت شرائح كبيرة من البشر البرمائيين الذين جعلوا الوطن في ذيل قائمة اهتماماتهم.
إنَّنا في عصر التحرير الثاني، تحرير العقل العربي بعد عصر تحرير الأرض العربية، اليوم فقط يمكننا القول بأننا في الطريق الصحيح للقضاء على المنظومات الكبرى المؤرقة لنا والمرهقة لأوطاننا لعقود خلت كالفساد والظلم والطغيان، بعد أن وهبنا أعمارنا وعقولنا وأقلامنا لعقود ونحن نتحدث عن ضرورة القضاء على الفاسد والظالم والطاغية فقط، دون وعي منا بحقيقة المنظومات التي تعيد إنتاجهم في كل زمان ومكان؛ لهذا فلاشك عندي بأن هذا الحراك الواعي اليوم سيجد الكثير من العداء والتحريف والتشكيك من قبل المتضررين في الداخل والخارج، لكنه سينتصر لا محالة وسيعزز كثيرًا من جهود الوطنيين الشرفاء في إحداث التغيير الضروري للأوطان كي تُشبهنا، وسيؤسِّس لوعي عربي قادم أكثر سعة وأجدى نفعًا، وعي عابر للحدود وللأجيال كذلك... وهنا الرهان والقطاف.
وبالشكر تدوم النعم...،
------------------
قبل اللقاء: "من يحترفون إثارة الفوضى في المجتمع هم بالتأكيد الذين لا يملكون حلًّا لمشكلاته، ولكن يبحثون عن الزعامة وسط الفوضى" - يودور ديستوفيسكي.