جرُّ ما حقُّه الرفع ما لم يقُلْه ابنُ الفارض

 

محمود بكو | | ألمانيا – مدير مجلة "كلمات ليست كالكلمات"

 

تشيع نسبة هذه الأبيات التي تغنى بها الكثيرون لسلطان المحبين والعاشقين "عمر ابن الفارض" رضي الله عنه. الأبيات تقول:

أُخٍفِي الهَوَى وَمَدَامِعِي تُبْدِيهِ،

.....................................وَأُمِيتُهُ وَصَبَابَتِي تُحْيِيهِ.

وَمُعَذِّبِي حُلْوُ الشَّمَائِلِ أَهْيَفٌ،

............................قَدْ جمعتْ كلُّ المَحَاسِنِ فِيهِ.

فكأنهُ فِي الحُسْنِ صُورَةُ يوسفٍ،

..............................وكأنني فِي الحُزنِ مِثْلُ أبيهِ.

إلا أنني لا أجدها في كل ما في مكتبتي من طبعات لديوان ابن الفارض، من بينها طبعة قديمة أهدانيها صديق عزيز، وهي طبعة "مكتبة زهران"، وهي من مطابع منطقة الأزهر القديمة، وأخرى من شرح الأستاذ الدكتور/ مصطفى رجب، الذي عُني كثيرا بشرح غريبه، وثالثة من تحقيق الإيطالي "جوزيبي سكاتولين"، وتضمنت هذه الطبعة قراءات لنصوص ابن الفارض عبر التاريخ، وسكاتولين واحد ممن درسوا هذه النصوص وغيرها دراسة متأنية دقيقة، ومن أهم ما قدمه في هذا المجال، إضافة إلى (تحقيق ديوان ابن الفارض) كتابه "التجليات الروحية في الإسلام"، وهو مرجع لا غنى عنه في موضوعه، وقد نسبت بعض المصادر هذه الأبيات إلى شاب أندلسيّ مجهول، عَلِقَ قلبه بحب فتاة، وكان عفيفا فلم يطلع أحدا على حبه، حتى لزمه المرض، فلما رأت أمه دنو أجله أرسلت إلى الفتاة، وعندما التقيا قال هذه الأبيات، ويبدو أنها رقَّت لحاله، لما سمعت هذا الكلام، فاقتربت منه، فسقط من الشمع شيء على وجهه فأحرقه، فقال:

يا حارقا بالنار وجه محبه

...................................مهلا فإنّ مدامعي تطفيهِ.

أحرق بها جسدي و كل جوارحي

..............................واحرص على قلبي فإنك فيهِ.

إن أنكر العشاق فيك صبابتي

.............................فأنا الهوى و ابن الهوى و أبيهِ.

ثم مات الفتى من فوره، ومؤكد أنه مات بسبب الحرق، لا بسبب "جر ما حقه الرفع" في قوله (وأبيه)، مراعاة للقافية، هل يمكن أن نجيز الجر على أن (أبيه) معطوف على الهوى؟ والمعنى: فأنا الهوى و ابن الهوى و ابن أبيهِ؟ ربما.

وقد روت مصادر أخرى هذه الأبيات على نحو آخر، ربما يكون أليق وأدق.

صبر الفتى في الحب لا يجديه

...........................فاسمع قتيل اللحظ ما أرويـه.

فأنا الذي قد مت طوعا فيـه

......................(أخفي الهوى ومدامعي تبديـه).

...............(وأميته وصبابتي تحييه).

لما رأى العـذال حبـي عنفـوا

..................قلت ادخلوا في الحب لا تستنكفوا.

البيـن عذبنـي وإنـي مدنـف،

.....................(ومعذبي حلو الشمائـل أهيـف).

.......(قد جمعت كل المحاسن فيه).

يا نفس هذا الحِـب لا تتوقفـي،

.....................يا روح عن كل الوجود به اكتفي.

إني فتنت بحسنه فـي الموقـف،

.................(فكأنه في الحسن صورة يوسف).

........(وكأنني في الحزن مثل أبيه).

فهذه الرواية تدفع للاعتقاد بأن هذه الأبيات إنما هي في الأصل مقتطعة من موشح أندلسي غزلي، وقد يبدو الأمر عكس هذا، بمعني أن الموشح إنما هو تخميس من القصيدة، وتذكرنا هذه القصيدة بقصيدة منسوبة للشيخ/ عيسى البيانوني، شدا بها أديب الدايخ، وتقول:

هم بالحبيب محمد وذويه،

..............................إن الهيام بحبه يرضيهِ.

إن مات جسمك فالهوى يحييه،

.......................جسد تمكن حب أحمد فيه.

..........تالله إن الأرض لا تبليه.

طوبى لمن هو في المحبة صبه،

......................... لم لا ومولاه الكريم يحبه.

في القبر حاشا أن يخيب محبه

.........................أم كيف يأكله التراب وحبه.

.........في قلبه ومديحه في فيه؟

 

وأتوقف أيضا (لدى قراءة ابن الفارض) عند مشكلة تتعلق بقصيدة مطلعها:

غيري على السلوان قادر،

......................وسواي في العشاق غادر.

لي في الغرام سريرة

...............................والله أعلم بالسرائر.

فهذه القصيدة (التي غناها الكثيرون أيضا) أجدها في ديوان ابن الفارض، طبعة مكتبة زهران، وكذا في طبعة د/ سكاتولين، ولا أجدها في غيرهما، وبعضهم ينسبها للبهاء زهير، وأجدها في ديوانه، وكذا في كتاب "المنتخب من أدب العرب" الذي عني بجمعه طه حسين وأحمد أمين وآخرون، ويلاحظ أن هذه القصيدة يغلب عليها ما يغلب على شعر البهاء زهير، من التورية ومراعاة الطباق والجناس، على النحو الذي غلب على شعر البهاء زهير، بخلاف ما يتميز به شعر ابن الفارض، الذي ربما نعرف عنه هذه السمات في ألغاز ومرقصات يسيرة، ليست لها قيمة كبيرة بين شعره، أما أغلب شعره فيجنح إلى اختزال فلسفة كبيرة، بإشراقات عرفانية ونورانية، تتحقق فيها فكرة النص المشع، المكتنز بالدلالات، القادر دوما على أن يخلق عالمه الخاص، ربما مع كل قراءة.

تعليق عبر الفيس بوك