عبيدلي العبيدلي
ما الذي يحدث في لبنان؟ وما الذي ستؤول له الأحداث التي اندلعت شرارتها بشكل فاجأ الجميع؟ وأسئلة أخرى تدور على لسان من تابع سير الأحداث فيها عن قرب، خلال الأيام القليلة الماضية، إثر نشوب المظاهرات الصاخبة التي انفجرت من بيروت، ثمّ انتشرت كالنار في الهشيم كي تشمل جميع المدن والبلدات اللبنانية. فقد خرج، كما تناقلت وسائل الإعلام "الآلاف من اللبنانيين إلى الشوارع في العاصمة بيروت وغيرها من المدن احتجاجا على فرض الحكومة حزمة من الضرائب وتردي الأوضاع المعيشية، قبل أن تتحول الهتافات إلى مطالبة بإسقاط الحكومة".
الملفت للنظر، بشأن تلك المظاهرات، هو التضارب في الصفات التي أطلقت عليها. فهناك من وصفها بأنّها "انتفاضة شعبية"، في حين ذهب آخرون فاعتبروها "ثورة". لكن بغض النظر عن الصفات والمواصفات، أجمع من تناول "احتجاجات أكتوبر 2019 (أنّها) مختلفة إلى حد كبير عن مثيلاتها" من حيث عدد الأفراد المشاركين فيها، بل وحتى عدد المدن التي استجابات لها. وفوق هذا وذاك كان من بين الملاحظات التي لفتت النظر هو "غياب" إعلام الأحزاب السياسية بشكل تام عن هذه الاحتجاجات، التي يشارك فيها آلاف المحتجين من كل الأعمار، ضد الطبقة السياسية الحاكمة، حيث رُفع العلم اللبناني فقط". بل تعرّضت القيادات اللبنانية التاريخية إلى موجة من السخرية والاستهزاء لم تعرفها في تاريخها السياسي المعاصر، بما فيها فترات قمة الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في الربع الأول من العام 1975، وما زال لبنان يعاني من تداعياتها.
في خضم تلك التظاهرات التي اقتربت أنشطتها من اللوحات الفنية ذات الطابع الفلكلوري، تراجعت إلى الوراء المطالب المعيشية، مثل المطالبة بخفض الضرائب، أو رفع الأجور والمرتبات، أو إصلاح الخدمات والمرافق، وحلّ مكانها مطلب واحد هو مغادرة "الطواقم السياسية" التقليدية مقاعدها، وفتح الأبواب أمام جيل مختلف، ينتمي لقوى سياسية جديدة، كي يمارس دوره الذي اختطفته منه حفنة من تلك القيادات التي تجثم على صدر المشهد السياسي، منذ أن نال لبنان استقلاله في الثلاثينيات من القرن الماضي.
ردة الفعل الأولى الباحثة عن الوصول إلى اتفاق مع المتظاهرين، جاءت على لسان رئيس الحكومة سعد الحريري، متحدثا بلسان مختلف الأطراف السياسية التي تشكلت منها تلك الحكومة، بما فيها حصة "حزب الله"، وجاءت في صيغة مجموعة من الإصلاحات، سيطرت عليها قرارات مثل "إلغاء وزارة الإعلام وخفض رواتب الوزراء والنواب".
ربما من المبكر التكهن بما ستؤول له موجة الاحتجاجات تلك، لأسباب كثيرة ذات علاقة بطبيعة الأوضاع في لبنان، والمنحى الذي أخذته، خلال النصف القرن الماضي، ومن بين الأهم فيها:
- تشكل لبنان السياسي، بناء على قرار صادر عن واحدة من القوى الكبرى حينها، والتي هي فرنسا، وبمباركة من الإمبراطورية البريطانية، وموافقة من القيادات العربية حينها، بما فيها القيادات اللبنانية التقليدية. ومن ثمّ فالكيان السياسي اللبناني، على النحو الذي هو عليه اليوم، لا يعدو كونه استكمالا لمشروع أكبر هو اقتسام مناطق النفوذ الأجنبي، "محاصصة" بين الدول العظمى، وعلى وجه الخصوص بريطانيا وفرنسا. هذا الأمر يعني فيما يعنيه، أن ذلك التكوين لم يأت من ولادة طبيعية، بل بالأحرى كانت عسيرة، وشوهت المولود الذي كان الدولة اللبنانية. هذا التشوه ترك بصماته على مسيرة الدولة اللبنانية، وحال في محطات كثيرة من تطورها، دون انتقالها من مجتمع يقوم على المحاصصة الطائفية، إلى دولة حديثة تسيرها حزمة من التشريعات المعاصرة، تعضد دستورا، قادرة على أن تنقل البلاد إلى مصاف الدول الحديثة.
- رغم وجود دستور لبنان مكتوب، وموافق عليه، وتم تعديله في العام 1990، لكن آلية تشكيل الهيئات التنفيذية والتشريعية، بما فيها مؤسسات الدولة، وإدارت التشريع، تخضع، وعلى نحو دقيق، لاتفاق غير مدون، لـ "محاصصات" غير مكتوبة، لكنّها محفورة، ومحفوظة عن ظهر غيب لدى القيادات السياسية اللبنانية، ويجري العمل بها في دهاليز العمل السياسي هناك.
- عاش لبنان حربا أهلية ضروسا امتدت منذ العام 1975، وما يزال المجتمع اللبناني، يعيش ذيولها، ويعاني من تكرار اندلاع شرارتها بين الحين والآخر. دمرت هذه الحرب، التي بلغ عمرها اليوم ما يقارب من 40 سنة، ليس البنى التحتية، والهياكل الاقتصادية للبلاد فحسب، بل مس جوهر القيم الثقافية، وصلب المكون الحضاري للمجتمع اللبناني، وأزال القشرة الرقيقة التي كانت بمثابة طبقة التجميل التي أعطت للبنان وجهه المشرق، بعد أن أخفت تحتها كل العيوب التي قادت إلى تلك الحرب، وما تزال تغذي عوامل استمرارها في صيغ مختلفة، ومبطنة.
- وجد لبنان، بفضل تكوينه السياسي، وانتمائه العربي، نفسه أمام تدخلات عربية ليس له قول فيها، مارست دورا تخريبيا حال دون تطوره، بل كانت في حالات كثيرة سببا من أسباب تدهوره، وفي حالات معينة أخرى، كانت تلك الأصابع العربية هي من يلعب في الخفاء، لتسيير دفة العمل السياسي اللبناني. ومن تابع الحروب الأهلية التي عرفها لبنان منذ نيله الاستقلال يكتشف، مدى تأثيرات الصراعات العربية على الساحة اللبنانية في رسم معالم المسار الذي سلكته الدولة اللبنانية في ممارسة دورها كسلطة تنفيذية.
- قدر للبنان أن يكون متاخما لحدود الكيان الصهيوني الشمالية، ومن ثم فقد وجد نفسه، دون أن يتخذ هو قراره بنفسه، جزءا من المواجهة العربية – الصهيونية. وقاده ذلك إلى مواجهات مع ذلك الكيان، جراء ذلك التكوين السياسي. ازداد حضور هذا العامل في مسرح العمل السياسي اللبناني الداخلي، بعد حرب أيلول 1970، في الأردن، بين الفصائل الفلسطينية والسلطة الأردنية، وانتقال العمل الفدائي الفلسطيني إلى الجنوب اللبناني. قاد ذلك إلى أن يصبح الكيان الصهيوني، ومشروعاته التوسعية، على وجه التحديد، واستراتيجياته العسكرية، شكلت جميعها عوامل مفصلية، وعامل من أهم من عوامل صنع القرار السياسي، بل وحتى العسكري اللبناني.