حاتم الطائي
◄ دور الدولة كمؤسس وبانٍ وداعم للنمو اكتمل والمهمة قد أُنجزت
◄ آن الآوان أن تنقل الدولة مسؤولية التنمية الاقتصادية إلى القطاع الخاص
◄ ضرورة تبسيط الإجراءات ووضع معالجات للبيروقراطية وتحديات الاستثمار
بعد أسابيع قليلة تهل علينا أغلى المناسبات الوطنية، حيث ترتفع الروح المعنوية للوطن مع حلول العيد الوطني التاسع والأربعين المجيد، لنحتفل جميعا بهذا اليوم الخالد، الذي يمنحنا شعورا بالفخر بما تحقق من منجزات على تراب وطننا الغالي، وما أرساه حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- من ثوابت وطنية وقواعد راسخة رسوخ الجبال العمانية الشاهقة، رسمت صورة عُمان الحديثة داخليا وخارجيا، وأسست لنهضة عمانية معاصرة أخذت بأسباب النمو والتقدم، حتى صارت مضربا للمثل، ونموذجا يحتذى به في العديد من المجالات.
ولذا ومع اقتراب اكتمال العقد الخامس من عمر النهضة المباركة، والسير بخطى حثيثة نحو عامها الخمسين ويوبيلها الذهبي، يتعين علينا أن نلقي نظرة فاحصة لما ينبغي علينا الإسراع في تنفيذه خلال المرحلة الراهنة، وأن نعيد تقييم الوضع بما يسمح لنا بالانطلاق نحو المستقبل بما ينتظرنا فيه من تحديات بدت بوادرها قبل 4 سنوات، مع انخفاض أسعار النفط لمستويات تسببت في تراجع كبير بإيرادات الدولة، وترتب على ذلك زيادة في العجز المالي. التحديات التي أتحدث عنها ليست اقتصادية وحسب، بل هي أيضا جيواستراتيجية، في ظل ما تشهده منطقة الشرق الأوسط- والخليج على وجه الخصوص- من تغيرات وتطورات متسارعة، تتغير معها السياسات والتحالفات بل والجغرافيا السياسية والتشكيل الديموغرافي للسكان في بعض المناطق.
أخصص هذه المساحة كي أتحدث عن دور القطاع الخاص، الذي أخذ بُعدًا متزايدا منذ أن أعلنت الحكومة عن خطتها المستقبلية الطموحة رؤية "عمان 2040"، وكشفت في أعقاب مداولات مجتمعية ومشاورات مع الخبراء والمتخصصين عن حزمة من البرامج والخطط الاستراتيجية التي تستهدف إحداث تحوّل حقيقي في منظومة الأداء العام للدولة، من خلال إعادة هيكلة الأدوار؛ سواء المواطن الفرد، أو المؤسسات الرسمية الحكومية، أو شركات ومؤسسات القطاع الخاص. وإعادة الهيكلة تتطلب تهيئة المجتمع لتقبل الفكر الجديد القائم على الشراكة في مسيرة التنمية، وذلك عبر الإعلام بوسائله المختلفة، ومن خلال جهود التثقيف والتوعية ووضع قواعد جديدة نسير عليها جميعا حتى نصل إلى وجهتنا التي نأملها، وأساسها الشراكة والتمكين.
وأول ما يتعيّن علينا القيام به، أن نعيد النظر في بعض المُسلمات، وفي الصدارة منها؛ دور الدولة ومؤسساتها في مسيرة التطوّر والتنمية، وأن نضع إجابات تلامس الواقع فيما يتعلق باستمرار مفهوم "الدولة الرعوية" ودور الحكومة كمنفذ وضامن للنمو بشكل عام. يجب أن نطرح تساؤلات صادقة مع أنفسنا أولا، عن الأدوار المستقبلية للدولة والقطاع الخاص أيضًا خلال السنوات المقبلة، فالدولة وخلال العقود الأخيرة كانت ملزمة بتأسيس كل شيء تقريبا، من بنى أساسية ومدارس وحتى دعم القطاع الخاص، من خلال تنفيذ العديد من المهام والمسؤوليات التي كان يتعيّن على القطاع الخاص أخذ زمام المبادرة فيها بعد العقد الأول من مسيرة نهضتنا، لكن مع الأسف تأخر القطاع الخاص كثيرا، وواصلت الدولة ومؤسساتها تحمل الأعباء مرات ومرات، حتى باتت مثقلة بالمسؤوليات، فهي رغم كل شيء مطالبة بتوفير الوظائف للباحثين عن عمل، بل وتعيينهم في مؤسسات حكومية لعدم رغبة الكثير من الشباب في العمل بالقطاع الخاص، وهذا وفق إحصاءات رسميّة. وحتى الآن لا تزال الدولة تقدم الدعم في خدمات الكهرباء والمياه والوقود، ولذا اعتاد المواطن على الدولة الرعوية، وفي ظني أنّ القطاع الخاص مسؤول- كما الدولة- عن ذلك الأمر. فالقطاع الخاص إذا ما كان تحرك سريعا مع أوائل التسعينيات وتولى زمام المبادرة، لصار الآن أكثر قوة عمّا هو عليه حاليا، ولاستطاع توظيف الآلاف من الشباب في فرص عمل جاذبة وواعدة، يمكن من خلالها المواطن أن يبدأ حياة جديدة وهو مدرك تماما أن مستقبلا مزدهرا ينتظره.
لكن لا يمكن القول "فاتنا القطار"، فنحن لا نزال في فسحة من الوقت تسمح للقطاع الخاص والدولة، على حد سواء، أن يعملا سويا على تغيير نمط الدولة، وإعادة هيكلة الأدوار، وتوزيع المهام، بما يتيح لاقتصادنا الوطني الانطلاق نحو الآفاق الواعدة التي وضعتها رؤية "عمان 2040" وأيضا التطلعات العريضة التي أطلقتها مبادرات برنامج التنويع الاقتصادي والتي حددت القطاعات الواعدة القادرة على قيادة قاطرة التنمية في بلادنا.
ولذا وبعد ما أنجزناه من عقود التنمية والتطوير في شتى قطاعات العمل والإنتاج، فإن دور الدولة كمؤسس وبانٍ وداعمٍ للنمو في هذه القطاعات، قد اكتمل وأنّ المهمة قد أنجزت على أكمل وجه، فلله الحمد لدينا بنى أساسية متطورة تحوز على أعلى التصنيفات عالميا، من طرق وجسور ومطارات وموانئ، وبتنا نفاخر العالم بما أسسه جلالة السلطان المعظم- أيّده الله- من مؤسسات استطاعت في غضون سنوات أن تعلن عن نفسها وبقوة، وخاصة المؤسسات المعنية بقطاع الاستثمار، مثل الهيئة العامة لترويج الاستثمار وتنمية الصادرات "إثراء" وهيئة المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم والهيئة العامة لسوق المال والهيئة العامة للتخصيص والشراكة، وغيرها من الهيئات والمؤسسات الداعمة للنمو الاقتصادي.
دور الدولة يجب أن يتحول من الدور الرعائي، إلى الدور التنظيمي؛ بأن تكون الدولة هي المُشرع والمُنظم لمختلف القطاعات، وعلى رأسها القطاع الاقتصادي، وأن تتحول مؤسسات الدولة إلى جهات رقابية وتنظيمية لعمل هذه القطاعات، وأن تترك للقطاع الخاص مسؤولية تنفيذ المشاريع الكبرى وفق آليات السوق، وأن ينحصر دور الدولة في تقديم الرعاية الاجتماعية والصحية للفئات التي تستحقها، فلا يُعقل أن تظل الدولة بعد 50 سنة نهضة ترعى صاحب الثروات كما ترعى المواطنين المقيدين في نظام الضمان الاجتماعي، لا يجب أن تساوي الدولة أيضا بين المؤسسات الناشئة التي تحتاج إلى الدعم والتحفيز- عبر القوانين والتشريعات المُيسرة- وبين المؤسسات والكيانات التجارية الكبرى العملاقة التي استفادت على مدى عقود من المشاريع الحكومية والدعم الحكومي السخي.
آن الآوان أن تنقل الدولة العبء الذي أثقل كاهلها إلى القطاع الخاص، وأن تشرُع فورا في برنامج التخصيص، وطرح الشركات التي أسستها الدولة للاكتتاب أمام القطاع الخاص، على أن تقوم هي بوضع التشريعات المنظمة وتنفذ الرقابة الحقيقية عليها، وأن تُلزم الإدارات الجديدة لهذه الشركات بقواعد الحوكمة والشفافية، فهذا هو السبيل الأمثل لكي يتولى القطاع الخاص زمام المبادرة، ويكون قادرًا على توظيف الآلاف من الشباب، والإسهام بفعالية في النمو الاقتصادي.
دور الحكومة يجب أن يشمل الآن وضع الخطط والبرامج الكفيلة بزيادة الإيرادات، وأن تعمد إلى تبسيط الإجراءات أمام القطاع الخاص، الذي لا يزال يشكو من تعقيدات غير مبررة تعيق حركة الاستثمارات، كل ذلك من أجل أن ينطلق هذا القطاع ليعمل بديناميكية وسرعة ومرونة على نحو أكبر، إلى جانب وضع معالجات للبيروقراطية وتحديات بيئة الأعمال. فلا أتصور أن تصريح إنشاء فندق أو مصنع أو إذاعة، يستغرق سنوات من الإجراءات البيروقراطية والشروط التي لا تنتهي.
وأخيرًا.. مسيرة التقدم والازدهار في بلادنا ستتواصل بصورة أسرع وفعالية أعمق إذا ما بلورنا خططا عملية لأجل تحفيز القطاع الخاص وتمكينه من القيام بالمهام والمسؤوليات المتوقعة منه، بما يسهم في تحقيق نتائج إيجابية على رأسها النمو الاقتصادي ودعم استدامة التنمية التي أنجزناها خلال العقود الماضية، فبدون الاستدامة لن نحقق المأمول، وسنظل ندور في حلقات مفرغة، وستتزايد التحديات وعندها ستكون تكلفة إعادة الهيكلة أغلى من أي وقت مضى.