اللهجة السودانية والقرآن

 

 

محمد علي العوض

 

يؤرخ كثيرٌ من الباحثين لظهور اللهجات العامية العربية ببداية عصر الفتوحات الإسلاميّة، وقد أدّى هذا التوسع الجغرافي إلى بروز واقع ديمغرافي جديد كان نتاجًا لاختلاط العرب بعجم آسيا عن طريق النكاح وغيره.

وذهب بعضهم إلى أنّ ظهور اللغة العامية بدأ إبّان عهد ضعف الدولة الإسلامية أيام المماليك؛ وإن كان ذلك لا ينفي ظهور اللحن منذ أيام الدولة العباسية؛ ودليلهم في ذلك الاشتراطات التي وضعها نحويو البصرة والكوفة لجمع اللغة العربية وتدوين علومها عبر أخذها مباشرة من أهل البادية لا سكان الحضر الذين خالطت ألسنتهم لغات عجمية أخرى بسبب الاحتكاك والمصاهرة.

وبرغم أنّ اللغة الفصحى لها صفات على صعيد التراكيب، والسياقات، والحمولات المعنوية بعكس اللغة العامية واللهجات المحليّة إلا أنّ العلاقة بين العربية الفصحى واللهجة العامية هي علاقة أصل بالفروع، ويصف خالد إبراهيم المحجوبي ذلك بأنّ تلك الفروع برغم عدم وفائها إلا أنّها لم تنفك عن أصلها، فهي على الأقل – أي العامية- مازالت دائرة في فلك اللغة الأم، وقابعة في ظلها وتحت سطوتها.

هناك لهجات عربية أقرب ما تكون إلى اللغة الأم؛ ولعلّ اللهجة السودانية واحدة منها، فكثير من الكلمات العامية السودانية هي في الأصل فصيحة تمّ اشتقاقها من اللغة الأم، وقد أوجد لها السودانيون اشتقاقات ومجازات واستعارات جديدة ومثال ذلك كلمة "دابي" أو "دبيب" التي تعني في العامية السودانية الحيّة والثعبان، وهي كلمة فصيحة مشتقة من الفعل دبَّ: دبَّ يَدِبّ دبيبًا ودَبًّا ودَبَباً.. ونقول دبَّ الطفل: زحف.. ودبَّتِ الحَيَّةُ أو الدُّودةُ ونحوُهما: زحفَت، مَشَت مَشيًا بطيئًا. واسم الفاعل من دبّ هو دَابّ، لكنّ السودانيين حوروا الكلمة قليلا بإضافة ياء إلى آخرها فصارت "دابي" وهذا من باب تسمية الأشياء باسم مشتق من المصدر على جهة الوقوع منه، وكذلك يمكن إيراده من باب إطلاق الصفة على الموصوف، وهذا النمط من التركيب الوصفي موجود في القرآن الكريم؛ وفيه تُذكر الصفة وحدها واقعة موقع الموصوف وقائمة مقامه، فمن ذلك قوله تعالى:" وكان أبوهما صالحا" فالأصل: (وكان أبوهما رجلا صالحا)، فحذف الموصوف (رجلا) وأحل صفته محله.

وعندما قالوا "دبيب" أطلقوا المصدر فصار مُسمى، فمن المجاز تسمية الشيء بالمصدر، ومن ذلك تسمية الجيش زحفاً.

بل أحيانًا تستلف العامية السودانية مفرداتها من لغة القرآن الكريم ذات المعيارية اللغوية والبلاغية. من ذلك قولهم: "أريد أن ألفى فلانًا في بيته": أي أجده في بيته قبل أن يتحرك، وترد بمعنى اللحاق أو الإيجاد والتدارك.. وفي لسان العرب أَلْفَى الشيء: وَجَدَه. وفي القرآن الكريم "...ألفيا سيدها لدى الباب.." سورة يوسف آية 25.

ونقول أيضا: "أريد أن أتلافى الخسارة: أي أتداركها.. وفي هذا المعنى يقول ابن منظور تَلافاه: افْتَقَدَه وتَدارَكه.

وللدكتور "عجب الفيا" مباحث لغوية كثيرة وجميلة تذهب هذا المذهب، ومن ذاك مبحثه "ألفاظ اللهجة السودانية في لغة القرآن". حيث يقول "إنّه في أحد الرمضانات الفائتة قرأ المصحف من البقرة إلى الناس قراءة استقصائية لرصد الألفاظ التي نستخدمها في لغة الكلام ولا نستخدمها في لغة الكتابة ظنًّا منّا أنّها غير فصيحة ولا تصلح في الكتابة. فخرج بهذه الحصيلة التي ربما تشكل نماذج فقط ولا تغطي كل ألفاظ الكلام المهجورة في الكتابة؛ ومنها الآتي:

- نقول في السودان أغلف، أي لم يختتن. وفتاة غلفاء. ولسانه أغلف أي لا يبين لعجمة في لسانه.

قال تعالي: "وقالوا قلوبنا غلف" - البقرة – 88.. والغلاف: غطاء وغشاء. وكل شيء في غلاف فهو أغلف. إذن قلب أغلف كأنه مغشي بغطاء فهو لا يعي شيئا.

- ونقول: زِح.. يَزِح بمعنى يبتعد، قال تعالى: "وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر" -البقرة 96.. وقد جاء في لسان العرب: "زحّ الشيء يزحه زحّا: جذبه في عجلة، وزحزحه فتزحزح: دفعه ونحاه عن موضعه وباعده منه.

- ونقول "يغرف المُلاح – الإدام-" أي يأخذ منه بالمُغرافة. ويغرف الماء من الأرض أي يملأ آنيته منه. قال تعالى: " إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا "– البقرة 249. وجاء في لسان العرب: "غرف الماء والمرق ونحوهما يغرفه واغترفه واغترف منه. وفي الصحاح: غرفت الماء بيدي غرفا.

- ونقول: "هذا شيء ممحوق" أي لا بركة فيه. قال تعالى: "يمحق الله الربا ويربي الصدقات" – البقرة 276.. وجاء في لسان العرب: "المحق: النقصان وذهاب البركة. وتمحق الشيء وامتحق. وشيء محيق: ممحوق. قال تعالى: "يمحق الله الربا ويربي الصدقات " أي يستأصل الله الربا فيذهب ريعه وبركته وفي حديث البيع: "الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة".

- نقول "شعره منفوش" و"ينفش الشيء": أي يبعثره قال تعالى: "كالعهن المنفوش" أي كالصوف المنفوش. وقال تعالى: "نفشت فيه غنم القوم". أي بعثرته.

  • يقول عجب الفيا أيضا: "نقول "فار اللبن": وفار يفور فورة وفورانا إذا غلي يغلي غليانا. قال تعالى: "إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور" – الملك – 7.. وقال ابن كثير في تفسير الآية قال الثوري: تغلي بهم كما يغلي الحب القليل في الماء الكثير.. وفي الصحاح: فارت القدر تفور فورا وفورانا: إذا جاشت. ومنه قولهم: ذهبت في حاجة ثم أتيت فلانا من فوري، أي قبل أن أسكن.