علي بن مسعود المعشني
يأبى العراق إلا أن يكون ويبقى ضجيجًا وصخبًا بالملاحم والتنوير والأحداث الجسام، فاعلًا ومُتمرسًا وصانعًا للحضارات ومعلمًا وملهمًا للبشرية منذ نشأته وحتى مطلع الفجر وكأنه قدر محتوم عليه ومحصور عليه.
من لا يُدرك العراق ولا يفهم أسراره يفقد بوصلة الاهتداء إليه ويخسر رهانات كثيرة مهما بلغ من القوة والبطش والجبروت، فالعراق كأمته العربية تمامًا عصي في ضعفه وعصي في قوته.
ظن من احتل العراق عام 2003م، ومن أعانه أن حصار العراق وتجويعه قد أنضج الظرف للتنكيل والعبث به، وإعادة إنتاج عراق تابع خانع لاحول له ولا قوة، حيث احتكم المحتل إلى قوته المفرطة وحدها وتنكر لقوة الإرادة لدى العراق والتي استقاها من فيض حضاري عميق وتاريخ مديد جعل من العراق كيانًا منيعًا عبر تاريخه الطويل من الغزوات والاحتلالات وعبث الغرباء.
لم يعِ رعاة البقر كعادتهم كُنه الحضارات وصفات أبنائها، ذلك السر الذي جعل من العراق صنوًا للحياة والإعمار والمجد وخصما عنيدا للموت والاندثار والفناء.
رعاة البقر لا يُفكرون ولا يتعظون بل يجربون حتى يفشلوا ويذوقوا مرارات الهزيمة كالعلقم، لهذا لم يتعظوا من تداعيات احتلال العراق والتنكيل به عام 2003م، بل يعيدون الكرة اليوم لاحتلالات أخرى، احتلالات ناعمة يقتل من خلالها العراق العربي الذي بدأ يتشكل من رحم المُعاناة وأنهر الدماء والتشظي المجتمعي الكبير. لازال لرعاة البقر جولات مع العراق الناهض وثأر وغصة، كيف لا، والعراق هو من أجبر محتلا على إعلان رحيله صاغرًا في جنح الظلام وأهدى للعالم أجمع نمراً من ورق يسمى أمريكا.
لن ينسى الأمريكان للعراق مناعته الطبيعية التي كبدتهم خسائر لا تنسى، ولن ينسى للعراق الجريح مناعته في منع تشكيل كيان كردي مُقتطع من أرضه وسيادته وثرواته، ولن ينسى المحتل للعراق الجريح سموه سريعًا فوق جراحه والتئام مكوناته وعودة التآخي سريعًا إلى نسيجه الاجتماعي، ولن ينسى المحتل للعراق الجريح عودته لحيويته السياسية تدريجيًا ومُمارسته لسيادته في مجاله الجغرافي الحيوي، ولن ينسى المحتل أن العراق الجريح بحشده الشعبي الباسل هو من بدَّد حلمه الكبير بدولة داعش الفاصلة بين العراق وسوريا. وما بين تلك الفواصل تفاصيل صغيرة ولكنها منغصة للمحتل وأدواته في المنطقة وآخرها فتح معبر البوكمال بين العراق وسوريا والذي كان من المحرمات في زمن المُحتل وهيمنته. لا يُمكن الفصل بين ما يحدث للعراق اليوم وبين أوضاع المنطقة بعمومها من الجوار السوري والشمال التركي والجوار الغربي الإيراني واليمن وليبيا، مع ترقب حذر لحالات مصر والسودان وتونس والجزائر.
فخطورة العراق على المحتل وأعوانه تكمن في محاذاته لخصومه التقليديين سوريا وإيران، فحين فشل المحتل في مُخططه في جعل أي من سوريا أو إيران هدفاً ثانياً بعد العراق وإنطلاقًا منه بعيد احتلاله مباشرة نتيجة المقاومة الشرسة التي واجهها أعد الخطة (ب) والمتضمنة التفرد بمكونات تيار المُمانعة، فكان ما أسماه بالربيع وأنفرد بسوريا حتى أنكسر المخطط فعاد إلى إيران فمُني بهزيمة مجلجلة وعلى الهواء مُباشرة، وفقد حسابات مهمة في اليمن للسيطرة التامة على البحر الأحمر لإتمام صفقة القرن وأخواتها بفعل استبسال الحُديدة وصمودها الأسطوري، هنا كان لابد للتاجر اليهودي الخاسر أن يُقلب في دفاتر جده حيث وجد العراق ولكن أي عراق وجد؟!
القاعدة تقول: ما بُني على باطل فهو باطل، وهي قاعدة حياتية في السياسة والتاريخ كذلك؛ حيث لايمكن ألا يكون العراق غير عربي ولا يمكن للعراقي أن يقضم أطرافه ومكوناته تحت أي عنوان ولا يمكن للعراق أن يُعادي من تعاديه أمريكا أو يحب من تحبه إيران دونما مسوغ قانوني أو أخلاقي.
ما ينطبق على العراق اليوم في سوء التحليل والفهم هو ما لبست به سوريا ذات يوم حين وصف تحالفها مع إيران وروسيا بأنه احتلال لها في تجل واضح لمن يرون الآخرين بعين طباعهم ويمارس عليهم الاحتلال والتبعية باسم التحالف. خروج المظاهرات اليوم في العراق ليست كسابقاتها قياسًا على توقيتها المحلي والإقليمي والدولي، كما أنها ليست مظاهرات مطالب معيشية صرفة مهما حاول طابور الربيع أن يجتر لنا الأسطوانة المشروخة والممجوجة منذ عام 2011م، والتي تسلل من خلالها الخصوم وأجهزوا على الدولة الوطنية في اليمن وليبيا وأحدثوا إخلالا عميقًا في مصر وتونس ولازالت الجزائر والسودان على قائمة الانتظار. السياسة من العلوم الإنسانية التي تحمل الفرضيات المتحولة ولكنها في مواقف بعينها تحمل طبيعة العلوم التطبيقية والتي لا تحتمل القسمة أو الصرف، من هنا فلا يمكن أن يصدق عاقل واحد بأن هذا الضجيج الإعلامي الغربي لتهويل مظاهرات العراق هو لنصرة العراقيين والانتصار لمظالمهم المعيشية والقضاء على الفساد الذي شرعنه المُحتل بنفسه كي يبسط يده على العراق ومقدراته وقراراته. فمن أراد الانتصار للعراق والعراقيين حقيقة عليه الإجهاز على الوجود الأمريكي في العراق بكامله، فباجتثاث الوجود الأمريكي في العراق سيرحل معه من أتى خلف دباباته ومن يحمل جنسيته وسترحل معه جحافا الدواعش بخلاياها النائمة واليقظة، وسترحل معه الميلشيات جميعها وبلا استثناء، وسترحل معه غرف العمليات للموساد والأتراك ودول الجوار للعراق جميعها وغيرهم من اللاعبين على الساحة العراقية، فليس من العقل أو المنطق أن نُجهز على الفاسدين والظالمين والطغاة ونترك الساحة مليئة بمنظومات الفساد والظلم والطغيان بالإبقاء على المحتل الأمريكي وأعوانه في العراق وجواره.
وفي الختام.. يمكننا القول إنَّ ملخص ما يحدث في العراق اليوم هو مباغتة العراق الوطني العربي القادم لا محالة قبل أن يتشكل ويقوى عوده ويسترد عافيته وسيادته وحيويته وهويته وهواه، أي قبل أن يسترد العراق كامل حريته وقراره.
قبل اللقاء: عجبًا لمن يصفق لإهراق دماء العراقيين بدلاً عن دمه ويطالب بالديمقراطية والعدالة للعراقيين وهو لا يفهم حتى معنى المفردتين لغويًا، ويتحدث عن مظالم الآخرين وهو يظلم حتى نفسه!!
كل قول بلا رضاك نفاق ** ليس قولًا ما لم تقل يا عراق
(عبدالرزاق عبدالواحد)
وبالشكر تدوم النعم...