د. سيف بن ناصر المعمري
في الوقت الذي يتوجه فيه كل الاهتمام الحكومي بشكل خاص والشعبي بشكل عام هذه الفترة إلى مجلس الشورى؛ وانتخاب أعضاء دورته التاسعة؛ بدا ملفتاً كثيرا فيما يطرح من حوارات محاولة تحميل مسؤولية الإخفاق في كثير من الملفات إلى المواطنين كناخبين؛ وإلى مجلس الشورى كمجلس برلماني؛ وهذا مؤشر واضح على إبعاد المسؤولية عن الحكومة مُمثلة في وزاراتها المختلفة.
فالمواطنون يتحملون المسؤولية لأنهم لم ينتخبوا الأعضاء المناسبين ذوي الكفاءة إلى المجلس؛ والمجلس يتحمل المسؤولية لأنه لم يستخدم أدواته البرلمانية المتعددة والتي تصل حتى الاستجواب في حالات الفشل في إدارة ملفات وطنية حيوية، أو إحراز تقدم فيها، أو في انتهاك حرمة الأموال العامة. ولذا مضت الأحاديث الإعلامية تتجه نحو تبصير المواطنين وتوعيتهم وتحذريهم من مغبة صوتهم الذي سوف يقصم ظهر التنمية؛ وسيقود إلى تأخير الحلول لكثير من الملفات الاقتصادية والاجتماعية. وفي الواقع هنا محاولة نقل المشكلة من مكان إلى مكان آخر غير مؤثر كثيرا في صناعتها أو في حلها، وهذا الذي يقودنا إلى الحديث عن إشكالية "نقطة التعادل" كسياسة اقتصادية، وهذه السياسة التي يبدو أنها تتجه بنا إلى مجهول لا نعلمه، وإلى نقطة لا نعرف مدى بعدها عنَّا. وموضوعنا هنا لإثارة النقاش حول هذه السياسة التي يُروج لها منذ فترة طويلة على أنها سياسة اقتصادية عادية، لا إشكالية فيها، ولا ينبغي القلق منها أو طرحها للنقاش أو المساءلة أو الاستجواب في هذا المجلس الذي يراد تحويله بالهامش الضيق الذي يعمل به إلى مجلس لتحمل الأخطاء الاقتصادية.
باختصار سياسة التعادل كسياسة اقتصادية؛ هي السياسة إلى تسعى إلى الوصول إلى مرحلة التعادل بين الأرباح والخسائر؛ أي بمعنى آخر العمل بإنفاق كبير لعدد كبير من السنوات لتحقيق هذا الهدف؛ وهذا الهدف الذي تعمل وفقه كثير من الشركات الحكومية، وتروج له بأنه هدف استراتيجي مقبول، وتمضي عامًا بعد آخر إلى إرجاء نقطة التعادل إلى مدى أبعد من المدى المحدد بدلاً من أن تعلن عن تقديمها؛ فهذا الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات الحكومية يصرح في عام 2018 بأنه من الصعب ذكر توقيت محدد لنقطة التعادل، لأنَّ وقف الخسائر "سيعتمد في جزء منه على عوامل خارجية". وهكذا تأتي التصريحات من المؤسسات الاقتصادية عامة تحمل الإخفاق لعوامل خارجية، وكأن العوامل الخارجية أكثر تأثيرا علينا من غيرنا الذين تحقق شركاتهم أرباحًا، وتطور من أدائها ومنافستها.
إذن ماذا نسمي الإعلان المستمر عن الخسائر من قبل هذه الشركات بدلاً من الإعلان عن تحقيق الأرباح؟ لما لا نتبنى سياسة الانتصار وتحقيق الأرباح بدلا من الإصرار على سياسة نقطة التعادل السياسة الاقتصادية؟ كيف يمكن أن نفهم جدواها ونحن منذ عدة سنوات نبحث عن تحريك مياه الاقتصاد وشرايينه وسياسته والعقول المسيرة له، لتخفيف الضغط على المواطنين من أثر تزايد الرسوم شيئاً فشيئاً؟ وذلك إخلال كبير بما دار من تصريحات من عدة سنوات بأن معيشة المواطن خط أحمر لا يمس، لكن يبدو في الواقع أن الخط الأحمر الذي لا أحد يُريد أن يقترب منه أو يمسه أو ينبه للإخفاق فيه هو هذه الشركات ومجالسها المتعددة التي لا تمس امتيازاتها ولكن تمس حقوق الوطن من الأرباح التي تتحول باستمرار إلى خسائر، فمتى يحظى هذا الملف بتغطية إعلامية كبيرة كهذه التي تحظى بها انتخابات مجلس الشورى؟ ومتى ستعمل أجهزة الرقابة على مُحاصرة هذه الإخفاقات لأن النيل من المال العام ليس فقط باختلاسه، إنما يتم النيل منه بالإخفاق في حسن إدارته، ومتى سوف يتم وضع سياسة التعادل الاقتصادية في قفص الاتهام؟
لم تقتصر سياسة نقطة التعادل الاقتصادية على الشركات وأرباحها ولكن انسحبت على ملفات اقتصادية أخرى منها ملف الباحثين عن عمل؛ الذي لم نصل فيه إلى نقطة التعادل بين الباحثين وفرص العمل، أي النقطة التي لا يوجد فيها باحثون عن عمل ولا فرص متاحة؛ ذلك سيعد نجاحا كبيرا، ولكن نقطة التعادل في هذا الملف الاقتصادي مؤجلة إلى نقطة غير معلومة، رغم التصريحات التي تملأ الجرايد بالأعداد الكبيرة عن فرص العمل التي توفرها المشاريع التي تبدأ فيها الحكومة، أو المشاريع الاستثمارية الخارجية التي تأتي إلى البلد. والسؤال الآن: أين ذهبت هذه الفرص إن كانت لم تقربنا حتى الآن من نقطة التعادل، أو من الانتقال إلى درجة بالسالب أي زيادة عدد فرص العمل عن الباحثين عنها؟ أليس هذا التراكم في أعداد الباحثين عن عمل يمثل تطبيقًا لهذه السياسة العائمة غير الواضحة التي تستحق أيضا التغطية والاهتمام والتحليل والتنبيه على مخاطرها وآثارها الكبيرة على البلد، وعلى أهمية معالجتها بسياسة مختلفة؟
لا يتسع المقام هنا إلا لذكر هاذين المثالين فقط على مخاطر سياسة التعادل الاقتصادية، وتداعياتها العميقة طوال هذه السنوات، وعلى أهمية التحرك في دوائر القرار العليا في البلد لمُراجعة هذا النهج الذي يقود إلى مآلات غير واضحة المعالم، كما تظهر المؤشرات. وحدها المراجعة الذاتية العقلانية لهذه الدوائر المؤثرة يمكنها أن تصنع فارقاً يفوق الفارق الذي سوف يصنعه صوت المواطن البسيط في انتخابات مجلس الشورى، ووحدها هذه الدوائر يمكنها أن تطلق عجلة الاقتصاد البطيئة لتدور بشكل أسرع وأفضل أكثر من مما سيقوم به أعضاء مجلس الشورى؛ أياً كانت كفاءتهم، لأن أقصى ما يمكن أن يقوموا به في مواجهة هذا الإخفاق هو رفع طلب بالاستجواب لن يتم الرد عليه، أو مناقشة وزير لا يمكن إلزامه بأي شيء، إذن القرار بأيديكم يا من تمتلكون القرار، ولابد أن تدركوا أن سياسة التعادل لا تعني أي تقدم اقتصادي.