احسنوا اختيار موظفيكم

 

د. صالح الفهدي

 

سمعةُ المؤسسة مرهونةٌ بسمعةِ مُوظفيها، فإن لم تولِ اختيارهم عنايةً دقيقةً، فقد أساءت لسمعتها، وأضرَّتها أيَّما ضرر، وإن هي أحسنت اختيار موظفيها ليس من الناحية المهنية وحسب، بل ومن الناحيةِ الأخلاقية التي هي صُلب التعامل الإنساني فقد سلكت الطريق الأسلم، فالمؤسسات تتعامل مع البشر، الذين يبنون علاقاتهم مع المؤسسة بحسبِ الانطباعات التي يكوِّنونها من تلقاء التعامل الذي يتلقُّونه من موظفيها.

وقد اقتبستُ تعليقاً من أحد المتعاملين مع إحدى المؤسسات ينتقدُ فيها المؤسسة بسبب سلوك موظفيها وأخلاقياتهم، يقول فيه:"لو رأيتم تعامل موظفيكم في(....)  لعلمتم السبب تماماً؛ موظفيكم يتعاملون مع الناس بازدراء وقلة احترام وعدم مهنية. احسنوا الاختيار ودرِّبوهم على الأدب".

ولا شكَّ أن الأزمة العظيمة التي كلَّفت شركة "ستاربكس" خسائر فادحة جداً، وأضرَّت بسمعتها، كانت بسبب سوء تعامل أحد مديري الفروع في ولاية فيلادلفيا مع رجلين من ذوي البشرة السوداء. الأمر الذي يوضِّح كيف يُمكن لموظف واحد أن يُسقط مؤسسة عظيمة، ويمرِّغ سمعتها في الحضيض..! وهو ما يُبرزُ قيمة حسن اختيار الموظفين، ومراقبة أدائهم، وتقييم سلوكاتهم، وتصحيح أخطائهم على الفور.

أحد الذين زاروا فرنسا أخبرني بأن اللجنة المعنية باختيار القضاة يحضرها طبيب نفسي، لا يُشاركُ في طرح الأسئلة، واختبار المترشِّح، وإنَّما يحلِّل تصرفاته، وكلامه، ولغة جسدهِ، ثم تكون لهذا الطبيب كلمة الفصلِ في الاختيار..!

إن تقييم الموظف، وأعني بالموظف كل من يعمل في الإدارات العُليا والمتوسطة والدنيا، أمرٌ في غايةِ الأهمية، ولا يمكنُ أن تغفلَ عنه المؤسسة قبل وأثناء الوظيفة، فهناكَ من يكونُ على خُلق وسماحة، وما إن يُمنح السلطة حتى تتكشَّف تلك الصفات عن بطرٍ وتكبُّر..!

وهناك ممن يعانون في الأصلِ من عُقدٍ نفسيةٍ مختلفةٍ، ما إن تُمنحَ لهم السلطة حتى تظهر هذه العُقد بصورةٍ واضحة، في طريقةِ تعاملهم مع النَّاس، استكباراً وبطراً، محاولينَ بذلك أن يسدُّوا النقصَ الذي يشعرون به على اختلافه، بل إن البعضَ ولمجرد أن يلبسَ لباس مؤسسته تنتابهُ نوبةٌ من البَطرِ والخيلاءِ، ويملؤه شعورٌ بالزَّهو والفوقية على الآخرين..! 

إن حُسنَ اختيار الموظفِ هو دليلٌ على المعايير العليا للمؤسسة، بيدَ أن كثيراً من المؤسسات الحكومية أو الخاصة لا تعي مفهوم "الثقافة التنظيمية" التي لابد لأي موظفٍ أن ينسجمَ مع قيمها، وإلاَّ فلن يكون متوائماً مع تحقيق الأهداف والغايات التي وجدت المؤسسة لأجلها..! كنتُ ذات يومٍ في لجنةِ اختيار موظفين لوظيفةٍ ما، فقابلنا أحد المترشحين، وكان على درجةٍ عاليةٍ من الخبرةِ في الوظيفة التي كنَّا نقابله لأجلها بل كان هو الأفضل، لكننا لم نختره..! لأننا وجدنا في حديثنا معه أثناء المقابلة أنَّه يتحدث بطريقةٍ فوقية، واضحٌ في أسلوبهِ التكبر والغرور، فرأينا أنه سيسمِّمَ بيئة العمل، بأكثرِ مما يفيدَ الوظيفة..!  

وقد فنَّدَ لي أحد الثقاة نفسيات موظفين في إحدى المؤسسات في مناصب الإدارة المتوسطةِ، فذكَر أنَّ أحدهم متعالٍ في خطابه، لا يُقدِّرُ الآخرين وهم أقدمُ منه وظيفة، أمَّا الآخر فقد تم وضعه في إحدى المديريات التي لها أهمية كبيرة في الوزارة فإذا به وقد ازدهى بالمنصب، وتاهَ به إلى درجةِ أنه أصبح يتعالى على الآخرين..! (وقصصُ هؤلاءِ كثيرة لا تحصى).

إن الموظف الذي يختارهُ الوزيرُ في مكتبهِ منسقاً أو رئيساً لمكتبه أو مستشاراً له إنما يعكسُ أخلاقه، وتوجهاته، فلايمكنُ أن يكون الوزيرُ في طبعٍ ما ويكون أولئكَ متصفين بطباعٍ أُخرى، فإن أردت أن تعرفَ طباع الوزيرِ أو الوكيل أو المدير العام فانظر إلى منسِّق، أو مديرِ مكتبه..! فإن قيل غير ذلك فإن المسؤول يعرفُ خللاً في مكتبه لكنه يسكتُ عنه تعمُّداً..!  

وإذا كانت الحكومة حازمةً في تطبيقِ أمرِ جلالة السلطان قابوس -حفظه الله ورعاه- في "سدِّ كل الثغرات أمام أي طريق يمكن أن يتسرب منها فساد" فإنَّ عليها أن تضعَ الموظف المناسب في المكان المناسب، لأن الفساد لم يكن ليظهر لولا ضياع الأمانة من الموظفين، وضياعُ الأمانةِ سببه المبدئي أن الأمر قد وسِّدَ لغيرِ أهلهِ؛ لقول رسولنا الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام حينما جاءه رجل يسأل عن الساعة: «إذا ضيِّعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (رواه البخاري).

أمَّا إذا كانت المحسوبيات والعلاقات والمصالح هي التي تتحكم في معايير اختيار وضع هذا في المنصب الفلاني فلا يمكنُ سد الثغرات التي يتسرب منها الفساد، لأن الاختيارات غير الموفقة هي التي أدَّت إلى وضعِ زمام الأمور في أيادٍ غير أمينة، بينما أُهمل أهلُ الأمانةِ والفضيلةِ جانباً، وأقصوا عن المسؤوليات..!

وإننا لنسمعُ عن تجاوزاتٍ كثيرةٍ تقعُ في الكثيرِ من المؤسسات فيُسكتُ عنها، الأمر الذي يؤدي إلى استفحالِ الفسادِ إلى درجةٍ لا يمكنُ القضاءُ عليها لاحقاً، في حين أن هناك الكثير من الطرق لكشف التلاعبات، والسلوكات غير السوية سواءً في إطارٍ داخلي أو خارجي يمكن الاستعانةِ بها، لكن السؤال المبهم دائماً هو: لماذا السكوت؟!

خُلاصةُ الكلام؛ إن حسن اختيار الموظف هو درءٌ للفسادِ، وسوءِ الاختيار هو فتحٌ لبابِ الفسادِ "ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها ".