د. راشد بن علي البلوشي *
دائماً ما نطالب طلاب المدارس والكليات والجامعات، ومعلمي المدارس وأساتذة الجامعات، والكوادر الفنية في المؤسسات الأكاديمية الحكومية والخاصة، بالإبداع، لكننا نادراً ما نُطالب الكوادر الإدارية بالإبداع في تأدية مهام عملهم. ويتَّفق الجميع على أنَّ الإبداع مطلوب، بل ضروري، في كل مكان في هذا العالم متسارع التغيُّر: في البيت، المدرسة، المسجد، مقر العمل، المختبرات، حقول النفط وفي الأعمال التجارية، وكذلك الإدارية.
فالإبداع، في أبسط تعريفاته، هو الوصول إلى غاية معروفة، أو تحقيق هدف متعارف عليه ولكن بطريقة جديدة، تتطلب جهداً أقل (أسهل) أو تكون أقل تعقيداً (أبسط) أو أقل تكلفةً (أرخص)، أو بطريقة تجعل المستفيدين يستغنون عن بعض الخدمات أو المنتجات الأخرى، أو بطريقة تعلم المستفيدين شيئاً مفيداً، مع الإبقاء على نفس جودة الأعمال أو الخدمات أو المنتجات، أو حتى تحسينها وتطويرها بهدف زيادة جودتها. ومن هنا، فإنَّ الإبداع يكاد يكون فرض عين لأنه فرع على الإتقان، وهو الذي يستوجب التجويد، فلا تجويد أو إتقان بلا تجديد أو تحسين أو تبسيط أو توفير في الجهد أو الوقت أو المال أو كل ذلك. وذلك لأن الكثير من آيات الكتاب العزيز تأمُر وتحثُّ على التفكر والتدبُّر والإحسان والسعي للتغيير للأفضل. وفي هذا المعنى، يقول المصطفى -عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".
ورُبَّما يقود هذا البعضَ إلى تصور أنَّ المراد فقط هو تطبيق القوانين والأنظمة ذات الصلة بالمواضيع والقضايا المختلفة في مجال العمل وأعمال المراجعين. ولهؤلاء نقول إنهم على صواب، ولكنهم بذلك يقومون ببعض العمل وليس كله. أي أنهم يقومون فقط بتطبيق القوانين وقواعد العمل وإجراءاته المختلفة، وليس بالضرورة بتقديم حل مناسب للمشكلة أو القضية المراد حلها، أو التوصل لحُكم أو قرار مناسب بشأنها، وهو ما يتأتى بإعمال العقل بالتفكير والتدبر والإحسان. وبتعبير آخر، فإنَّ الإتقان في العمل يتطلب النظر في ظروف وحيثيات القضايا المختلفة، ودراستها من جميع جوانبها، قبل البت بأن القوانين ذات الصلة يُمكن أن تطبق عليها كما هي -وهذا ما جعل الكثير من التابعين وتابعيهم ينأون بأنفسهم عن المناصب العامة؛ وذلك لأنهم يعلمون بأنها ليست تطبيقاً للقوانين والأنظمة فقط. أي أن الإبداع في تسيير شؤون الخلق هو الأصل، وليس التطبيق البحت للقوانين والقواعد المنظمة للتعاملات. ذلك أن المقصد الرئيسي من القوانين والأنظمة هو صَوْن حُقوق الخلق وحماية مصالحهم، ودرء الأضرار عنهم، وليس تطبيق القوانين. وبالمناسبة، فهذا هو نفسه المقصد من التشريعات الإلهية الموجودة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، والتي إنَّما شرعها الله تعالى لحماية الخلق وضمان سلامتهم وحفظ مصالحهم، وليس لتقييد حريتهم. يقول ابن القيم في هذا المعنى: "فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدلُ الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها".
وما يدلُّ على ذلك ما رُوِي عن الفاروق عمر -رضي الله عنه وأرضاه- أنه لم يقطع يد السارق في عام المجاعة، رغم وجود نص قرآني صريح بذلك؛ حيث يقول الله تعالى: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ". ولكن الفاروق أعمل عقله واجتهد، فأرشده الله تعالى إلى الآية الكريمة التي تقول: "فمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ". وبذلك؛ عطَّل تنفيذ الحكم في الآية الكريمة لوجود الشبهة؛ وذلك لأنه يتعارض مع المقصد منه، وهو مصلحة الخلق في الدين والدنيا.
* أستاذ اللغويات المشارك - جامعة السلطان قابوس