علي بن مسعود المعشني
ونحنُ على بُعد لحظات زمنية من طيِّ العام التاسع والأربعين من عُمر نهضتنا المباركة، ومُقبلين على اليوبيل الذهبي للنهضة، علينا أنْ نُقيِّم كل العقود الماضية، ونُعيد تقييمها وتقويمها، كما علينا أنْ نُشخِّص ونتحدَّث عن المُمكنات المهدورة، والتي تسرَّبت من خلال وعي أو لا وعي القائمين على رسم سياسات التنمية وتنفيذها.
لا نُنكر الكثير من المُنجزات التي تحققت، والتي تعانق مراتب الأحلام والمعجزات، وفي المقابل لا يُمكن أن ننسَى جُملة من المُمكنات التي أهدرت بفعل الجهل أو التجاهل، ومنها الاهتمام بالثقافة والعناية بها كلَبِنَة أولى من لبنات بناء الوجه الفكري للدولة.
فلكلِّ دولة وَجْهان؛ وجهٌ تقنيٌّ يتمثل في البُنية الأساسية وكل بناء مادي، ووجهٌ ثانٍ فكريٌّ يتمثَّل في الثقافة وأدواتها المباشرة وغير المباشرة من فنون وكتابة ونتاج فكري أو يدوي يحاكي الإبداع والفكر. ولغاية اليوم، لا تزال الثقافة في سلطنتنا الحبيبة يتيمة في الرعاية والفعاليات والدعم والمسؤولية كذلك، رغم المكانة والموروث الكبيرين للسلطنة؛ فهي شتات في المسؤوليات وشحيحة جدًّا في الدعم، وخجولة للغاية في الفعاليات والحراك والأطوار إلى حدِّ الرثاء؛ حيث لا يوجد معهد عال للفنون، ولا فرقة فنية وطنية تمثلنا في المحافل الإقليمية والدولية، وتوجيهات مولانا جلالة السلطان المعظم -حفظه الله ورعاه- بدعم الدِّراما العُمانية والنهوض بها وُئدت في مهدها وأصبحت نسيًا منسيًّا، والموازنة السنوية للنادي الثقافي أقل من رُبع المُعتمد المالي لندوة حكومية أو ورشة عمل ليومين فقط، أو مشهد احتفالي سنوي لهيئة أو مؤسسة حكومية!! والجمعيات التي أُشهِرت كجمعيات الكتاب والصحفيين والسينما لا تزال تحت رحمة الدعم الحكومي وبيروقراطية الرقابة والإدارة الحكومية، والأدهي والأمرُّ من كل هذه هو وجود صروح فنية وثقافية كدار الأوبرا السلطانية، وجوائز عالية كجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب؛ الأمر الذي يجب أن يُقرأ عادةً بوجود طفرة فنية تُوِّجت وكُللت بالأوبرا السلطانية، وحراك ثقافي حيوي ومتأصِّل تُوج وكُلل بجائزة سنوية رفيعة.
ما يهمُّنا اليوم هو ليس البكاء على الحليب المسكوب، بل التذكير بأهمية الثقافة لبناء الوجه الفكري للدولة، والذي من خلاله يتطوَّر الوعي ويتعمَّق ويتجذَّر الموروث، ويُصان، وتتشكل الهُوية الفكرية الجامعة والمناعة الثقافية للوطن، وتغادرنا أعراض التقليد والانبهار، ونتوقف عن الاستيراد الثقافي والفكري لأنماط وتجارب لا تُشبهنا. أتمنَّى من كل قلبي ونحن على مشارف اليوبيل الذهبي لنهضتنا المباركة أنْ يكون شعارُ هذا اليوبيل وخطته هي النهوض بالثقافة ودعمها كضرورة للدولة والمرحلة المقبلة؛ وذلك عبر سلة دعومات سخية تشمل التالي:
- تفريغ الكُتاب والفنانين -مِمَّن تنطبق عليهم هذه الصفات- من وظائفهم، كنوع من الدعم والتشجيع لهم؛ حتى يتفرغوا لإبداعاتهم ورسالتهم تجاه الوطن.
- إعادة تشكيل لجنة وطنية للنهوض بالدراما العُمانية وفق التعليمات السامية.
- دعم شركات الإنتاج الفني العُمانية وتشجيعها على الإنتاج الدرامي والإعلامي معًا.
- إعادة النَّظر في دعم الصحافة المحلية بما يُواكب العصر، ويحقِّق رسالة الصحافة في التنوير والتعريف بالسلطنة، ونشر الثقافة والحفاظ على الموروث القيمي والفكري للسلطنة.
- دَعْم الجمعيات القائمة الثقافية وتخصِيص وقفيات (مبانٍ) أو ودائع مالية حكومية لضمان قيامها بأنشطتها وتوسعها الدائم دون تعثر.
- تخصيص وقفية دائمة للنادي الثقافي، تُمكِّنه من القيام برسالته، وتحقيق أهدافه؛ أسوةً بالأندية الرياضية.
- إنشاء هيئة عُليا للثقافة؛ تتكوَّن من ممثلي الجمعيات والصحف والمؤسسات المعنية بالثقافة والفنون في السلطنة.
- تفعيل الثقافة والأنشطة الاجتماعية في الأندية الرياضية وجمعيات المرأة العُمانية في ربوع السلطنة، مع تخصيص موارد مالية لذلك.
- استحداث جمعية للفنانين (الموسيقيين/ المطربين/ الممثلين)؛ ترعى المسرح وشؤون الفرق الشعبية والعازفين الموسيقيين من المتقاعدين من السلك العسكري؛ بقصد إحداث طفرة فنية وتعزيز ثقافة الموسيقى وتوثيق الموروث وتأصيله بشكل علمي.
- تخصيص صندوق وطني لدعم الثقافة ضمن خطة خمسية تُقتطع له نسبة من الدخل ومبالغ من المسؤولية الاجتماعية للحكومة والشركات الحكومية والخاصة.
- إكساب المرونة للقوانين المتعلقة بإنشاء الجمعيات الأهلية والمكتبات الأهلية؛ حتى تتمكن تلك المؤسسات من القيام بدورها، وتحقيق رسالتها، إضافة لإكسابها طابع التنافسية والجودة ورفع منسوب التفاعل والإبداع لديها.
... إنَّنا يجب أن ننظُر إلى الثقافة كضرورة وليست ترفًا أو وجاهة، فبحضُورها تتحصَّن المجتمعات وتنمو، وتنمو معها الثوابت وجميل الموروث، وبغيابها ينتج الفراغ الفكري الذي يملؤه كل فكر قوي وحيوي بغض النظر عن أحقيته وجدواه.
وبالشكر تدوم النعم...،
---------------------
قبل اللقاء:
الثقافة ليست مهرجانات موسمية ولا ألعاب نارية، الثقافة صناعة فكر وبناء إنسان وتطوير ذائقة وحس إنساني، الثقافة كالماء والهواء للشعوب والأوطان.