الوقف التعليمي.. استدامة وتعزيز

علي بن خلفان الحراصي

a565a@live.com

لا شكَّ أنَّ أمواجَ الأزمة الاقتصادية قد هزَّت رواسخ الدول عامة، وبالأخص الدول النفطية ذات الاعتماد المرتفع على مدخلات أسعار النفط، والتي ما تلبث مُوازنات خدماتها العامة التأثر بأي تذبذب أو انتكاس لأسعاره، لذا كان لزاماً على هذه الدول إيجاد مصادر تمويل مستدامة وغير تقليدية تضمن استقرار -ولو بنسب معقولة- تمويل الخدمات العامة ومن بينها التعليم. ونظام الوقف يعتبر البديل الفعّال، والذي بلا شك يلعب دور العصب الذي لطالما اعتمدتْ عليه المساجد ودور العلم والنظام التعليمي بما فيه من طلاب ومعلمين خلال القرون الماضية، حتى أهمل وتقلص دوره في عالمنا العربي، مع ظهور النفط وتكفل الحكومات بتوفير الدعم والتمويل.

وقد نَشَأ الوقفُ مع بداية تأسس المجتمع الإسلامي؛ حيث لعبت الأوقاف العلمية دورًا مهمًّا على مدار التاريخ في تمويل دور العلم ودعم الطلاب والمعلمين، وقد تزايدت أعداد الواقفين مع تزايد طلاب العلم وتنقلهم من بلد إلى آخر؛ حيث كانت تقتضي الحاجة توفير أماكن إيواء ومعيشة لهم.

وفِي عُمان كغيرها من الأقطار الإسلامية، كانت هُناك العديد من المساجد الوقفية التي لعبت دورًا مهمًّا في العملية التعليمية؛ ومنها: مسجد الشجبي في نزوى، وجامع صحار، وجامع نزوى، كما أنَّ هناك أوقافًا خُصِّصت للمتعلمين؛ مثل: أوقاف الإمام سلطان بن سيف اليعربي للمتعلمين من فلج الملكي بولاية إزكي، وتأسست مدارس للعلم؛ مثل: مدرستا ابن بركة والجليلان، بحسب ما أورده الباحث في مجال الأوقاف خالد بن محمد الرحبي في إحدى دراساته.

... إنَّ تفعيلَ نظام الوقف التعليمي كحلٍّ اقتصاديٍّ لاستدامة دعم التعليم وتمويله، يضمن الديمومة والاستمرارية والاستقرار المالي بشكل عملي وبمخاطر منخفضة جدًّا؛ وذلك في ظل التحديات التي أثقلت كاهل الموازنات المرصودة لتمويل التعليم، وهي كما أوردها البرفسور فاروق عبده في كتابه "اقتصاديات التعليم":

- وصول أغلب الدول إلى سقف الإنفاق الذي لا يمكن تجاوزه من خلال استقطاع الموازنة العامة لكل بلد.

- ارتفاع مُعدَّل الطلب على التعليم العالي خلال السنوات الماضية.

- ترسُّخ مفهوم مسؤولية كل من القطاع العام والخاص في تمويل التعليم.

- خَصْخَصة التعليم العالي وتقليص الدور الحكومي فيه.

وفِي العقود الماضية، بدأتْ بعضُ الدول العربية والإسلامية تنتبه إلى أهمية تنويع مصادر تمويل التعليم، فأحيت سُنَّة الوقف التعليمي من خلال نظام استثماري متطوِّر يهدف لتنمية أمواله واستدامتها؛ مثل: أوقاف جامعة الملك سعود العريقة؛ حيث دشنت برنامجا وقفيا تمويليا يهدف لدعم أنشطة البحث والتطوير في التعليم، ودعم العلاقة بين الجامعة والمجتمع، وفي تركيا كذلك تم إنشاء العديد من الجامعات الوقفية مثل جامعتي "صابانجي" و"كوتش" منذ عهد الدولة العثمانية.

وتعتبرُ الوقفيات التعليمية الممكن الأساسي لتميز التعليم في الكثير من الجامعات الغربية؛ حيث تمكنها الوفرة المالية من تطوير التعليم وتحسين رواتب المعلمين وتطوير المكتبات والقيام بالدراسات والأبحاث، وتعتبر الأوقاف التعليمية فيها مصادر تمويلية خالصة للجامعات، ويتم تنميتها من خلال هبات رجال الأعمال والأغنياء أو الخريجين السابقين من الجامعة، حتى غدت وفرتها تعادل الموازنات السنوية للدول النفطية كما ستتحدث الأرقام في هذا الموضوع، وتعد الوفرة المالية فيها ضماناً للإنتاجية والاستمرارية والإبداع.

وقد شهدتْ أرقى الجامعات الأمريكية نموًّا في أصول صناديقها الوقفية منذ أزمة عام 2008م بنحو 30%، إلى 529 مليار دولار، ومن أبرز أمثلة: جامعاتها الوقفية "جامعة هارفارد" التي أسسها القس جونها رفارد عام 1636م، وتعد واحدة من أقدم وأكبر وأصعب الجامعات في العالم، وتمتلك أكبر حجم أوقاف عالميًّا يصل لحوالي 36.5 مليار دولار، وتحصل على تبرعات وإيرادات من الأوقاف بمليارات الدولارات، وارتفع عدد أوقافها إلى أن وصل لحوالي 11 ألف وقف، واستمرت على هذا النظام منذ أن تحولت إلى جامعة تعتمد على الأوقاف في العام 1870م، وهناك أمثلة أخرى مثل "جامعة يالي" تقدر موازنتها بحوالي 25.6 مليار دولار، و"جامعة تكساس" بحوالي 24.1 مليار دولار، وما من شك أوجدت شركات متخصصة لإدارة وتثمير هذه الأموال. وقد أورد الدكتور سامي الصلاحات في كتابه "الوقف بين الأصالة والمعاصرة" أمثلة لكبار المتبرعين الذين يدعمون مراكز البحث العلمي والتطوير في أمريكا؛ مثل: فورد، وروكفلر، وكانيجي...وغيرهم.

وفي القارة العجوز أمثلة مُتعدِّدة للجامعات الوقفية؛ حيث أسَّست فيها أقدم الجامعات العالمية منذ مئات السنين، لتستمر حتى الآن، معتمدة على التبرعات والأوقاف الخيرية مثل "جامعة أكسفورد" البريطانية، والتي قام بالتبرع لها مؤخرا رجل الأعمال الأمريكي ستيفن شوارزمان بمبلغ 150 مليون جنيه إسترليني؛ حيث تمَّ تخصيص هذه الأموال لتمويل إنشاء معهد جديد للعلوم الإنسانية في الجامعة، حسب ما ذكرته قناة "بي.بي.سي" في يونيو الماضي، وتقدر موازنتها بحوالي 6 مليارات باوند.

ومع نجاح التجارب العالمية في تنويع مصادر التمويل، لا بد من تفعيل النظام الوقفي ودعم هذا التوجه في البلدان العربية خاصة والدول الإسلامية عامة؛ وذلك من خلال أطر تشريعية وأنظمة اقتصادية حديثة تركز على تنمية واستدامة التمويل لمؤسسات التعليم.

تعليق عبر الفيس بوك