حدود مسؤولية المثقف

عبد الله العليان

يدور الحديثُ ويتشعَّب، وتتناقض الرؤى والنقاشات، حول دور ومسؤولية وأزمة المثقف، وهذه المسألة أصبحت واقعاً يدور الحديث عنه باستمرار، خصوصاً في ظل واقع الأمة وظروفها الراهنة، وما إذا كان المثقف مسؤولا عمَّا جرى من أزمات وتراجعات وانقسامات.

وقد سَبق وكتبت عن هذا الجانب، وقلت ليس من العدل أن يتحمل المثقف ما جرى ويجري لأمتنا من سياسات وقرارات وإخفاقات، ليست من صنعه، أو من بنات أفكاره، ومن الإنصاف عدم تحميله قضايا وإشكالات لم يسهم فيها، ولو بقدر يسير، ففي كتابه "مسؤولية المثقف"، يقول المفكر العربي د. محمد حامد الأحمري في مقدمة هذا الكتاب -والصادر حديثا عن منتدى العلاقات العربية الدولية- إنَّ أساس مسؤولية المثقف أنَّ "عمله يقتضي صنع الوعي، وإثارة التفكير، والتوجيه إلى التغيير، نحو ما هو خير للمجتمع، ونقد المؤسسات والأفكار التي تضر المجتمع أو هدمها، ومن هنا لا بد -عرف أو لم يعرف- أن ينتقد أو يهدم هذه المؤسسات (:)، ونقده يجب أن يكون أو يُفهم أنه بناء أو يتَّجه نحو البناء. إنَّه يقوم بدور الخلية الحية الناشطة في كل كائن حي، يُساعد الحياة ويقصي الخلية الميتة الضارة، ويبني مكانها خلية جديدة أنشط منها وأكثر فائدة وفاعلية. وبما أنه كذلك وهذه مسؤوليته، فلا بد له من الوسائل الحية الجديدة دائماً والأكثر فاعلية، وعليه أنْ ينسجم جدًّا مع الكائن الحي المحيط، وإلا فإنه سيبقى غريباً وبعيداً، ويوم يفسد يصبح كلًّا على مجتمعه، مضٍّراً به، كأي خلية تحتاج إلى من يُبعدها".

ويرى د. محمد الأحمري في رؤيته لمسؤولية وحدود المثقف، أن دوره معروف ومحدد، وينحصر في خلق الوعي والمعرفة الحقة، التي تحقق التفتح الفكري، وإنارة الدروب للمعارف الإنسانية في المجتمع؛ فصناعته الثقافة، وليس من مهامه إثارة الصراعات الحزبية والأيديولوجية، التي تحصل حولها التوترات والمساومات، لذلك -وكما يقول الأحمري- فـ"المثقف ليس سياسيًّا، فهمّه صناعة الوفاق لا الخلاف، وإن كان أكثر المثقفين للأسف من عُرّاض الأحزاب ومتحولي المواقف، ولكننا نطلب منه -رغم ضعفه وتبعته أحياناً- أن يستيقظ ضميره، وأن يغادر ربقة التبعية لمصلحة فردية صغيرة، ليرتقي إلى مصلحة الأمة التي ترجو أن يكون دليلها. ومجتمعه قد يتجاوز له ألا يلح على تقواه، لكنه لا يغفر خلاعته، فبعض التقوى إعاقة، والخلاعة خدعة أو بهرجة لحظة تخرج الحياة -من القيم والقيمة- وتسوق إلى العدمية". ولكن من الإنصاف -كما يرى د. الأحمري- ألا نُعمِّم على كل المثقفين بعض السلوكيات، التي خرج بها المثقف عن دوره، وأصبح تابعاً وبوقاً لأفكار وفلسفات سياسية وفكرية وأيديولوجية، لمصلحة ذاتية وليست عمومية، "ولم تخلُ -ولن تخلو- المجتمعات الحية من ضمير راشد لها، من مثقف يعيش الحاضر ويطل على الماضي، ويستشرف المستقبل بقدر طاقته، يُشارك مجتمعه، بل قد تكون لديه رؤية للمستقبل هي نتاج موهبته وجهده المخلص في البحث والبذل من الوقت والعلم في مشاركة المخلصين للإفادة بما توصلوا إليه، جادًّا في التخلص من أخطاء الحاضر ومن مخاطر مغامرات المستقبل".

ولا شك -كما يشير د. محمد الأحمري- أنَّ استزادة المثقف من المعارف الفكرية والثقافية، ستزيد رصيده في المجتمع، من خلال التعرف على الكثير من قضاياه وتحدياته واحتياجاته، بما يسهم في الوعي المعرفي. ومن هنا، فإنَّ "المثقف المؤثر اجتماعيًّا، يحتاج أن يكون له مزاج معرفي، وثقافة آنية تطلعه على ما يحدث، وله حس اجتماعي وعلاقة بالناس وشؤونهم، وعندما يضعف في جانب من الجانبين يظهر ذلك في كتابته وحديثه، وفي أي طريقة يخاطب الناس. فتجده مرة غارقًا في المجتمع وتحمد له ذلك، لكنه ينكشف بلا سترٍ في معلوماته الضرورية لما يعالجه، وإن كان لا بد من ميل إلى أحد الجانبين، فإني أفضل المثقف العملي الواعي بقضايا المجتمع المنصف على الواعي بالثقافة البعيدة عن حاجته، والثقافة التفصيلية التي تزيّن خطابه". وهذه معادلة أو مقاربة موضوعية بين وعي المثقف، وبين مقدرته ومنهجيته في طرح الآراء العقلانية والسديدة، وكل ما تحقق له زاد معرفي، كما حقق قبولاً في أفكاره التي يطلع عليها، وبسبب اطلاعه على الهم العام ومشكلاته؛ لذلك -وكما يضيف د.محمد الأحمري- فـ"كثيرًا ما نجد المثقف من أهل تخصص محدد، وهذا يساعده في بناء معرفة منهجية، وبناء مواقف منطقية لما يتحدث عنه، ولما يفهمه ويعالجه. وتزرع البراعة في تخصص ما مزاجًا علميًّا وذوقًا معرفيًّا ناضجًا، يساعد صاحبه على تفهم ما حوله ومعرفة مستويات المعرفة والفهم والتنفيذ في البيئات التي يتحدث عنها أو يتأثر بها. فمعرفة منهجية ولو في علم واحد تساعد على إدراك غايات الشخص الناصح المؤثر، فمن العقل أحيانًا تجاوز العقل، ومن المجدي أحيانا إلهاب العاطفة، والمثقف ليس الفيلسوف، بل هو المروج والمبدع والمدرك والمؤثر، فلا يرضى بحكمة فيلسوف غير عملي، ولا بغرفة مظلمة لأستاذ فلسفة يصرف فيها زمانه، يقرأ عن حركات العالم وأفكاره من حوله، بل هو في ضجيج اللحظة وتضارب الأهواء". ويرى الأحمري أنَّه كلما اقترب المثقف من الناس، وتعرف على مشكلاتهم، ولامس احتياجاتهم واهتماماتهم، اكتسب تقديرهم واحترامهم، حتى وإن لم تكن ثقافته واسعة في شتى العلوم الإنسانية، وهذه نتيجة طبيعية، هو "أن الكاتب الناجح شعبيًّا ليس الأعلم ولا الأقدر، لكنه ذلك الذي لامس القلوب والحاجات، ولم يثقل على العقول، وعندما يرحل من مسألة لأخرى يرحل عنها بسير الأقدام الهادئ الذي ينقلك بلا صرامة إلى المحطة القادمة؛ فالقارئ يريد معلومات ومتعة، ولو أدرك أنَّ الكاتب ناقص المعلومات، وربما غير موثوق، لكنه واضح ومحدد الرأي؛ فإنه يستمتع به رغم ذلك ويقرأ له؛ لأن الناس لا يطيقون مواقف الاضطراب، ولا من يتحدى مُعتقداتهم، إلا إذا أجبروا بأدلة علمية؛ لأنهم يحبون من يُؤكد ما هم عليه، ويتضامن معهم ويفكر مثلهم ويجد فكرته عندهم متطابقة أو مشروحة".. وللحديث بقية.