حمد بن سالم العلوي
لقد كنَّا نعجبُ ونحن صغاراً عندما نُقارن بين رَحى الحيّ ورحى الماء؛ فرحى الحيّ تدُور بساعد اليد عند الضرورة، أي عندما توجد حاجة لطحن الحبوب، وعندما تتوقَّف الحاجة تظل الرحى في حالة سكون، وعندما أقُول الحبوب فأقصد الشمولية؛ ففي زمن الحاجة وشظف العيش، كانت كل المحاصيل الزراعية صالحة للأكل، فتشمل عملية طحن قمح البُّر والشعير والدخن والسهوي، ومسميات أخرى كثيرة، وحتى لا نذهب بعيداً وننسى المقارنة، فإن رحى الماء تظل تدور بقوة حركة الماء، وأحياناً لا يكون هناك من يرغب في طحن الحَبّ عليها، لكنها تظل في حالة دَوران مستمر؛ فهكذا نظام التعليم في بلاد العرب، ورغم توقفه في فترة الإجازة الصيفية، وهذا توقف مُبرمج وليس للتطوير والتغيير؛ فيعودون لبدء الدراسة في العام الجديد مع آخر نقطة وضعت عند التوقف؛ لذلك خطر بالبال هذا التشبيه بالتعليم ودوران رحى الماء، ربما لذلك السبب قد قيل: "نسمع قعقعة ولا نرى طحيناً".
إنَّ التعليمَ الذي نحلم به لا يجب أن يكون كرحى الماء، وقد يسألُ سَائل: ما الحل إذن؟ سأقول للسائل ليس لدينا حل جاهز، بل عليكم أنتم أن تبحثوا عن الحلول؛ لأنكم قد أوكل إليكم هذا التخصُّص، فإذا عجزتُم عن إيجاد الحلول الناجعة للتعليم، فابحثوا عنها لدى الدول المتقدمة، فقد تسهِّل عليكم المهمة، فخُذوا منهم ما يناسبنا في تطوير مناهجنا، فعليكم أن تبعثوا نخبة من الشباب إلى الدول المتقدمة، ونأتي من خلالهم ما يلزمنا من العلم من هناك، وذلك لكي نخرِّج أجيالاً بمقدورها القيام بالعمل: الصناعي والتقني، ومعرفة الكيفية التي نرتقي بها بأساليب التعليم، وعندئذ نستطيع أن نتكلم عن ثورة علمية وصناعية وطنية، أما العلوم الإنسانية والثقافة الوطنية، فنأخذها أساساً من تاريخنا وميراثنا الثقافي، وأن نؤكد على الأخلاق وحُسن التعامل؛ ففي ذلك تكليفٌ ربَّاني أنْ يكون المرء على خُلق عظيم، إلى جانب التمسُّك بشرع لله في حُسن المعاملة، والحث على حب النظام وحب العمل، والحرص على مكارم الأخلاق، وألا نخرج عن الصفة التي عَلِمها عنا رسول الله -صلى عليه وسلم- حين قال: "لو أنَّ أهلَ عُمان أتيت ما سبوك وما ضربوك"، وإنَّ التخلِّي عن هذه الصفة الكريمة، تُعد خيانة لعهدنا مع رسول الله -عليه السلام- ومن خان الله ورسوله.. فلا إيمان له.
إذن؛ أن نظل نقلد غيرنا الأسوأ منا حالاً ومعرفة وانضباطاً، أمرٌ لا يُعقل، وأن ننسخ من مناهجهم التعليمية البالية، نكون كمن يلبس النظيف على جسم غير نظيف، ولا يعدو ذلك إلا أن يكون تقليداً أعمى، وأن نظل نأتي بمدرِّسين من بلاد العرب؛ فليس فيه أي شيء من الإنجاز؛ لأنَّ المثل يقول: "فاقد الشيء لا يعطيه"، وما نراه اليوم بالنسبة للتعليم العام مجرد تأدية واجب يومي مكرر وممل، وفي هذا لا عجب إنْ بُحِث عن المعلم الأقل كلفة، حتى لا تغلق المدارس أبوابها، ويظل الطلاب يسرحون ويمرحون في الشوارع، أما بالنسبة للتعليم الخاص ففيه ربح وخسارة، ولا أحد يُريد أن يخسر من أجل عيون الآخرين، وتوجُّه معظم الناس اليوم دنيوي، والكثير منهم نَسِي الآخرة، ويظن أنَّه سيعوِّض ما فاته من الدين برحلة سياحية إلى مكة والمدينة، وسيعيش في فنادقها ذات النجوم العشر، وبقدر ما دفع سيُغفر ذنبه؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وهذه تربية قد نعفي وزارة والتربية والتعليم من تبعيتها، فقد تكون مكتسبة بعد المدرسة، أو من ثقافة الواتساب الرعديد.
طبعاً، لم أتكلم عن الشأن الإداري لهذه الوزارة العَلَم، وإنما حصرت الحديث في طلب الرُّقي بالجوانب العلمية، والتقنية والفنية للوزارة، التي أوكل إليها صناعة المستقبل، أكان ذلك الاستثمار في الإنسان، أو في المساعدات التعليمية والإبداعية، بالخروج عن منهج الإجبار والتلقين والحفظ الأصم؛ وذلك بالخروج عن الدائرة المغلقة والمألوف المكرر، والولوج في مشاريع إبداعية بعد تجاوز مرحلة التعليم الأساسي، والسماح للطلاب باختيار ما يناسب ميولهم العلمي، أو الفكري والأدبي، والانتقال إلى الأفق الأوسع بمشاريع البحث العلمي والإنتاج؛ لأنَّ الشعوبَ مُختلفة وخُلقت هكذا، فكيف نريد أن نوحِّدهم في مساق ونهج واحد، وقد يقول قائل إذن العسكريون يُساقون في مساق واحد، وهذا ظاهره كذلك ولكن جوهره مختلف؛ لأنَّ الرغبة المبدئية لديهم قد توحَّدت في هذا الاتجاه؛ فقد ساقت تلك القناعة الذاتية هذا الإنسان ليلتقي بمن شاركه نفس الرغبة، فوجد أقرانه معه في انتظاره، ثم إنَّ العسكرية في داخلها مشارب وتفرُّعات كثيرة، وهم فقط ألزموا بالتعليم الأساسي في فترة التدريب الأوَّلي بنمط واحد؛ وذلك ليتعلموا أصولَ الضَّبط والرَّبط العسكري، وهذا الاتفاق المبدئي ضَمَن النجاح لاحقاً. فهل نجرُؤ على الخروج نشازاً عن المسار الخاطئ في التعليم، وننشز إلى المسار الصحيح القويم؟!!!