الفساد النظيف!

فايزة بنت سويلم الكلبانية

كشفتْ الجلسة الخاصة بقضية اختلاسات المال العام في وزارة التربية والتعليم -والتي استمرَّت حوالي 6 ساعات، وتصدرت حديثَ مُستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وحديث المجالس- عن حقائق وتفاصيل رُبما لو كان تمَّ تداركها في وقت مبكر، لما كانت الأموال المختلسة كبيرة لهذه الدرجة.

جلسة المحاكمة كشفتْ -من ضمن ما كشفت- أنَّ المتهمين 18، بينهم 4 نساء، وأن الأموال المختلسة بملايين الريالات، اختلسها المتهمون وقاموا باستثمارات عقارية في معظمها، داخل وخارج السلطنة. ما كشفت عنه تحقيقات الادعاء من أدلة كان له وقع الصدمة على الرأي العام، فإجمالي المبالغ المختلسة التي تمَّ رصدها بلغت 14 مليونا و476 الفا و382 ريالا عمانيا، وتمت الاختلاسات في الفترة من يناير 2016 إلى فبراير 2019، أي نحو 3 سنوات، وهؤلاء المتهمون يختلسون المال العام دون رد فعل آنٍ من أي جهة.

هنا.. كثيرٌ من التساؤلات وعلامات التعجب تدور في رأس كل مواطن، وتجلَّى معظمها عبر مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، مما يدفعنا للقول صراحة بأنَّ هؤلاء المتهمين -إذا تمَّت إدانتهم- فنحن أمام تشكيل محترف ودقيق في الاختلاس، فكل معاملاتهم كانت اختلاسات، ومرت بمراحلها القانونية المعتادة، وكل متهم بدوره سهَّل إكمال الإجراءات من طرفه للمتهم الآخر، ليحصلوا على المبالغ المطلوبة والفواتير، طيلة هذه السنوات.. إننا أمام ما أطلق عليه "فساد نظيف"؛ فمجموعة من الموظفين من ضعاف النفوس استغلوا صلاحياتهم وثقة أولي الأمر في أن ينفذوا مُخطَّطات دبروا لها جهارا نهارا، ومع الأسف في ظل غياب رقابي وخداع للمسؤولين الأعلى منهم، ممن أعطوهم الثقة العمياء والصلاحيات حتى في تحرير وتوقيع الشيكات، وما يتعلق بالأمور المالية التي تقدر بالملايين.

دروس كثيرة لابد أن نعيها من هذه القضية؛ أولها: ضرورة تفعيل نظام حوكمة المؤسسات الحكومية، ولابد أن تبدأ الانطلاقة بحوكمة الشركات الحكومية، ولابد من تطبيق ضريبة الدخل لمن يرتفع دخله الشهري عن 3000 ريال عماني، كما لابد أن يتم تفعيل الدوران الوظيفي بشكل جاد، فلا يعقل أن يظل الموظف او المسؤول الواحد أكثر من 10 سنوات في ذات المنصب، وبنفس المهام الوظيفية، هذا أمر رتيب للغاية ويؤسس لجذور الفساد؛ فالتدوير الوظيفي سيساعد على تقليص وكشف مثل هذه التلاعبات، وتفادي تفاقمها وتراكمها لسنوات عدة. أما الموظفون القدامى ممن لا يُجيدون التعامل مع الأجهزة الإلكترونية، ومتابعة أعمالهم بدقة البرامج الحاسوبية بحُكم أنَّ أغلب المعاملات التي ينفذونها تتم بطرق إلكترونية، فهؤلاء لابد من اتخاذ التدابير اللازمة بحقهم، وأهمها: إلحاقهم بدورات تدريبية لفهم أنظمة العمل، والتوعية بمخاطر الإهمال الوظيفي، وخطورة عدم الالتزام بالأمانة في العمل والحفاظ على المال العام.

إنَّ كلَّ موظف عام من أعلى الهرم "الوزير" إلى أصغر درجة وظيفية، في أي مؤسسة بالسلطنة، يجب أن يعي أنه مسؤول ومساءل عن تضييع الأمانة أو التساهل في تأدية مهامه الوظيفية، وأنه يتحمل المسؤولية الأدبية في أي قضية ذات علاقة بالمال العام.

فالظروف التي نمرُّ بها تفرض علينا ألا تأخذنا شفقة بكل من تسوِّل له نفسه الأخذ من المال العام بغير وجه حق، ومن تتحكَّم فيهم شهوة المال وبريق الذهب والفضة، إنَّ هؤلاء لم تكفهم آلاف الريالات بل تعدُّوا إلى الملايين بخطط مُحكمة تفنَّنت في تقسيم أموال الوطن على أنفسهم لشراء شقة على نيل القاهرة أو قطعة أرض في صحار.

هذه ليست المرة الأولى التي يتمُّ فيها الكشف عن فساد، ولن تكون الأخيرة، رغم أنَّنا نأمل أن يتم كشف الفاسدين قبل أن نبكي على الحليب المسكوب، أن نضبط المخالفين أثناء مخالفتهم لا بعد أن يتمتعوا بها لسنوات، وهنا الجميع مسؤول -كما ذكرت سابقا- فلا عُذر لمسؤول بأنه لن يتمكن من متابعة كل صغيرة وكبيرة في مؤسسته، بل على النقيض من ذلك، دور المسؤول أن يتابع الصغيرة قبل الكبيرة كي يضمن أن الجميع مُلتزم بالقانون وعلى قدر أمانة المسؤولية.

لا نريد أن نكون مثل مجتمعات استمرأت الفساد وبات ممارسة طبيعية، فنحن ولله الحمد ما زلنا نحافظ على قيمنا الأصيلة وأمانتنا المعهودة مع الجميع، وإذا ما ظهر فينا أو من بيننا فاسد أو مختلس، فهذا لا يعني انتشار الظاهرة مجتمعيا، بل علينا أن ننظُر إلى الجانب المشرق الآخر، وهو أنَّ لدينا موظفين مهرة من ذوي الخبرات وأصحاب الأيادي الطاهرة النظيفة، فكم من موظف قضى سنوات بل وعقودا في خدمة مؤسسته، ولم يطعم أولاده من حرام، أو تمتد يديه إلى ما ليس له، هؤلاء يجب أن نحتفي بهم وأن نحفزهم، وأن يكونوا قدوة للجميع، أما من خالف القانون وارتكب جرائم بحق الوطن، فيجب أن يُعَاقب بأشد العقوبات، بل إن على مجلس عُمان أن يعجِّل في الدورة التشريعية المقبلة بتغليظ عقوبات الفساد، حتى يرتدع أصحاب النفوس الضعيفة، ويظل وطننا عمان في استقرار ورخاء.