تسليم أهالي

 

داليا الحديدي | كاتبة مصرية

 

لكم هي معبرة تلكم المصطلحات الشعبية التي نقف حيالها منبهرين بقدرتها على توصيف الواقع.

من بين تلك المصطلحات، جملة تقال في الأوساط الشعبية في مصر وهي"متسلم تسليم أهالي"، فلكم نقابل من نماذج ينطبق عليها بدقة هذا التوصيف.

 فكيف لي أن أنسى بإحدى سفراتي، وكنت في المطار، يوم قابلت عروس وحيدة تجر حقائبها وأزيال ثوب العرس الذي كان يربك خطواتها، تابعتها بنظري فوجدتها وحيدة، دون عريسها.

الشاهد، دخلت الطائرة وجلست على المقعد بجانب أسرتي، فوجدتها تجلس وحيدة بمقاعد الصف المجاور ولا يفصل بيننا سوى الممر.

جلست مرهقة و"ملخومة" وقد حاولت مساعدتها، فتجاذبنا أطراف الحديث

:  مبروك، إن شاء الله حياة سعيدة مع عريسك.

: الله يبارك فيك، هو بانتظاري في المطار.

: العريس قريب لك؟

: أبدا، أنا حتى لم أقابله بعد؛ بل لم أره سوى في الصور، فأهلي قاموا بتزويجي له عبر توكيل، أي بالوكالة

: لما؟

: ظروف، الحقيقة أوضاع أهلي المادية صعبة قليلًا، فيما معاملتهم لي كانت قاسية كثيرًا.. وأنا متسلمة "تسليم أهالي" وراضية بهذا التلسبم على أمل أن يكون في غيب المستقبل شعاع رحمة وبصيص رفق لم أره في عيون عائلتي، وعمومًا إننا نرضى بمُر الغيب حينما يكون الواقع أشد مَرارة!  فلكم حاولت أن أخرس يأسي برجائي في غد واعد، فحنيني لرحمة المجهول لم تبرح صدري بعدما تيقنت من قساوة أهلي.

: ألست خائفة

: جداً، ؟

أنا قلت لك إني عارفة إني متسلمة تسليم أهالي،

تيقنت أنها تراهن على رحمة في الغيب لم تلمسها في قسوة الواقع. فهي لم تحلم يوما بحياة باذخة لكنها يبدو أنها قد وطَّنت العزم على الهروب من عتمة واقعها نشدانًا للضوء عبر حدود المستقبل المجهول.

لقد راهنت على أن ربما توشك الفجيعة أن تصبأ عن قساوتها، أو تُراها استولد الأمل من صلب مستحيل الألآم.

 بعدها بسنوات وفي ظهيرة يوم صيفي شديد الحرارة، كنت على وشك الخروج أيضا من المطار بعد قيامي بتوصيل بعض المعارف، وبالمنطقة الواقعة بين باب الخروج والدخول، وقع بصري على سيدة سمراء ملامحها شديدة الشبه بعروس الأمس لكن يتصبب منها العرق صبا، ثم إنها تدخل المطار وليس في حوزتها سوى حقيبة يد وكيس قمامة أسود لفت فيه شيئا أحسبه الحاسوب.

كدت أخرج مسرعة، لكني توقفت لها حين التقت أعيننا، فعرفتها، وعلى الفور سألتها

: أسفة للتطفل، لكن شكلك متعب جدا،  أتذكريني؟ ما بك؟ هل أنت مسافرة؟

أجابت: أنا مترحلة.. زوجي قام بإجراءات ترحيلي

سألتها: أيوجد أحد من عائلته مقيم معكم في البيت؟

قالت: والده ووالدته وإخوته كلهم كانوا معنا.

قلت: والأولاد؟

ردت: تآمر علي وأخذهم بعدما لفق لي تهمة وأتى بأهله شهود، ثم رحلني بعدما تزوج بأخرى

فسألتها: وأين أهلك؟

فكان أن قالت: أنسيت يوم أخبرتك أني أساسًا متسلمة تسليم أهالي

قلت: أأستطيع أن أساعدك بشيء؟

قالت: ادعي لي.

..

أكم من صبايا تم تسليمهم تسليم أهالي

هذه الفتاة الذي تقدم لها عريس، فقام الأب بمهاتفة بعض أقاربه للسؤال والتقصي عن العريس وأسرته، ثم تلتف الأم خلسة من خلف الأب لتتصل بالأقارب وتطلب منهم عدم التقصي عن زوج المستقبل ولا عن عائلته لتنعقد الزيجة "عمياني". فيذهب مستقبل وحياة ابنتها سدى لأن الأم مسلمة بنتها "تسليم أهالي"، فكل ما يهمها هو أن يقال أن فلانة زوجت ابنتها وأنهت مسؤوليتها وإن عوتبت قالت: ما له كلنا عيشنا مآسي وتحملنا!

أي جهل وأي قسوة تلك التي تجعل الأهل يتهاونون في السؤال عمن يتقدم لابنتهم، فتشقى الابنة حياة كاملة.

أي أخلاق تجعل الأب يوافق على عمل ابنه في سن صغير دون متابعة منه، فيعرضه للتحرشات والإعتداءات او للمخدرات والمؤسف حقا، حين يعي الصغير أن من أجرم بحقه ليس المتحرش ولا المغتصب ولا حتى مروج المخدرات، لكن لكون أهله قد سلموه لهؤلاء "تسليم أهالي".

إن للرشاوى مسميات تكسبها البراءة ولجرائم الأهل مسميات تكسبها القداسة. لذا، فقد اتفق الناس أنّ أمَرَّ ما يتجرعه الإنسان هو الظلم، أما لو تذوق المُر على مائدة الأقارب، فإنه وبحق أسوأ أنواع العلقم.

فصدق شاعرنا:

تعْدو الذئابُ على من لا أهل له.. وتتقي مرابض المستأسدِ الضّاري

 

 

تعليق عبر الفيس بوك