محمد البادي
تُشير بعض المصادر التاريخية إلى أنَّ العُمانيين -ومنذ عصورٍ مبكرةٍ- جابُوا البحار بأساطيلهم البحرية مُيَمِّمين أشرعتها نحو دول الشرق الآسيوي كالهند والصين وأرخبيل الملايو، بغرض التجارة ونشر الدين الإسلامي؛ حيث إنَّ هذه المصادر تحدَّثت عن بعض تجار عُمان باهتمامٍ كبيرٍ؛ فعلى سبيل المثال وليس الحصر: أشارت مصادر التاريخ الصيني إلى سيرة الشيخ أبي عبيدة عبدالله بن القاسم الصحاري، الذي خُلِّد اسمه في تاريخ الصين العظيم، والذي يعد أول عربيٍّ قام برحلته إلى الصين في القرن الثامن الميلادي.
وقد قلّده الإمبراطور الصيني في ذلك الوقت وساماً، ولقّبه بـ"جنرال الأخلاق الطيبة"؛ وذلك لنُبل خُلقه وحُسن سيرته بين الناس، والذي بدَوره كان له الأثر الطيب في نشر الإسلام في ربوع المدن الصينية التي عاش فيها. كما وثَّق كتاب "تاريخ عهد سلالة سون" الكرم العماني الأصيل، حيث البذل بسخاء، ومد الأيادي بالخير والعطاء، من خلال هذا الشيخ العماني، الذي حظي بحبٍّ كبيرٍ من أهل تلك البلاد، عندما طلب من حكومة الصين آنذاك السماح له بالتبرع لترميم أسوار مدينة قوانتشوا، التي أقام فيها فترةً غير يسيرة قبل أن يُغادرها عام 1072م عائدا إلى عُمان، حيثُ أهداه الإمبراطور الصيني "سون شين زون" جوادًا أبيض وطاقمَ سرج وزمامَ خيل، وهذا بلا شك إشارة واضحة لقوة العلاقة الودية بين الشيخ عبدالله الصحاري وإمبراطور الصين في تلك الفترة.
لقد تطلَّع سُكان تلك البلاد البعيدة إلى اعتناق الدين الإسلامي وتعلم العربية منذ أمدٍ بعيد؛ فالتمس بعضُهم تعلُّم اللغة العربية ليُقيم بها شعائر الدين الإسلامي، ويتعرَّف على شرع الله القويم، وعلى دستور المسلمين من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. فبالرغم من تبايُن أجناس وأعراق ولغات سُكان تلك الدول، إلا أنَّ المهاجرين العمانيين نجحوا ببراعة كبيرة في تعليم الكثير من قاطنيها الثقافة العربية والإسلامية؛ حيث تمثَّل ذلك في الدور الكبير الذي قاموا به في نشر الدين الإسلامي واللغة العربية؛ فقد أشارت بعضُ المراجع التاريخية إلى أنهم أقاموا العديد من المدن والمستوطنات العمانية والعربية في الهند والصين، وفي جُزر أرخبيل الملايو، فكانت مراكز إشعاع علمي وثقافي، نَشَر العمانيون من خلالها الدينَ الإسلاميَّ الحنيفَ واللغة العربية والثقافة العُمانية بأدق تفاصيلها، تلك الثقافة الأصيلة المستمدَّة من الحضارة العُمانية المُوغِلة في القدم، إضافة إلى أنَّ هذه المدن كانت مراكز وأسواقا تجارية نشطة.
أما الآن، فالوافد إلى الأقطار العربية، أيًّا كانت جنسيته، يقضِي بيننا عشرات السنين، بعضهم وصل إلى أربعين سنة، يشاركنا نمط الحياة اليومية، وربما يكون على الدين الإسلامي، ولكن ما زلنا نُصرُّ على مخاطبته بلغة عربية مكسَّرة، وألفاظٍ أصعب مما تحويها اللغة العربية نفسها، ولكنات نالت من التشويه حدًّا لا يُطاق، حتى يخرج هذا الوافد من بيننا ولم يتعلم سوى كلمات بسيطة من اللغة التي اجتهدَ أسلافُنا لإيصالها إلى أماكن بعيدة من هذا العالم.
... إنَّ استخدام اللغة المكسَّرة للتخاطُب مع الوافد ظاهرة نكاد لا نجدها سوى في بلداننا العربية، فعندما نسافر إلى أي دولة من الدول غير الناطقة بالعربية، لأي غرض كان؛ سواءً كان للدراسة أو العمل أو السياحة أو العلاج، فإنَّ شعوبَ تلك الدول تأنَف من مخاطبة الوافد إليها بلغة غير لغة أهلها؛ فلا نجدهم يُكسِّرون لغتهم بغرض التخاطُب معنا، ولا نراهم يتحدَّثون بلسانٍ أعوج مع الغرباء.
لذلك؛ باستطاعة الزائر للبلدان غير الناطقة بالعربية إتقان لغة ذلك البلد في مدةٍ يسيرةٍ قد لا تتجاوز أربعة أو ستة أشهر. أما حال الوافد إلينا، فمهما قضى بيننا من عمر، فإنه يعود إلى بلاده كما جاء منها، لم يتعلم سوى كلماتٍ يسيرةٍ مكسرةٍ.
إنَّ ما نراه من انتشارٍ للمفردات المكسرة المستخدمة في التخاطب مع الوافد واختلاطها بالحياة اليومية للشباب العربي، يُشكّل تهديداً واضحاً للغة العربية؛ فالمتمعِّن في ألفاظ بعض اللهجات العمانية مثلاً يجد أنَّها تحوى ألفاظًا عربية مكسرة لم تكن موجُودة فيها أصلاً؛ فأصبح الشباب العُماني لا يجد أدنى حرج من استخدام هذه الألفاظ المكسرة للتخاطب فيما بينهم، فاعتبرُوها من ضمن الألفاظ العربية؛ سواءً كانت فصحى أو لهجة دارجة، ولا نبالغ إذا أبدينا هواجس مُخيفة من أنها رُبما تلقي بظلالٍ سلبيةٍ على ثقافة وسلوك الشباب العربي: الأدبي، والإبداعي، والفكري.