حزامة حبايب في "مخمل" تنتصر بالخيال على قسوة الواقع (2 - 4)


أ.د. يوسف حطّيني| أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

ثانياً ـ الإطار الروائي:
على الرغم من تمحور الحكاية حول زمن حوّا الخاص ومكانها، فإنها تمتدّ زمنياً لتشمل عدة أجيال، وتمتد مكانياً لتشمل عدة أماكن، فقد امتدت الرواية زمنياً إلى خمسة أجيال: جيل جدة حوا وجيل أمها وابيها وجيلها وجيل ابنها وبناتها وجيل حفيداتها، بعلاقاتها وخلفياتها الاجتماعية، ما يجعل الرواية وثيقة لعادات تلك الأجيال ومعاناتها، ترصد فيها حزامة، من غير فجاجة، الأثر الذي تركته النكبة الظالمة في الشخصيات.
وقد امتدت الرواية مكانياً من مخيم البقعة إلى صويلح وصافوط، وإلى القدس والشام، سعياً لإضاءة خلفية الشخصيات (مثل نايفة وقمر)، أو مآلات حكاياتها (مثل درة العين)، غير أنّ المكان/ البطل بقي جاثماً في مخيم البقعة، مؤثثاً بمطره وصقيعه وشتائه وشمسه الدافئة الخجول، وسوقه وشوارعه وبيوته الحزينة حزنَ ساكنيه. لقد رسمت عدسة حزامة أزقّة المخيم التي تحفظها عن ظهر قلب، "بجغرافيتها المتقشفة، الصامدة ظاهرياً، بأثلامها المكرّسة؛ ببثورها التي تخزّن مياه الصرف القاتمة اللزجة؛ بدماملها الرملية التي لا تُنكأ إلا لتتشكّل ثانية..."، ص15، كما رسمت حوائط "البيوت الموقعة بالبؤس والضنك والاكتظاظ وكتابات الزمن غير البليغة، غير الحصيفة، تنزّ رائحة حياة مغلوبة، وبشر متعبين، استسلموا لتصاريف أيامهم"، ص31، ووصفت الأبواب "الحديدية المطلية بألوان فطرية رخيصة صاخبة تكسر رتابة المحيط الأشيب للجدران والطرقات"، ص ص33ـ34. وإذا كنّا ندرس في المكان الروائي الأمكنة المغلقة في مقابل الأمكنة المفتوحة، فإن حزامة لم تكد تترك مغلقاً إلا فتحته، هذا بالإضافة إلى ميلها الشديد إلى الأمكنة المفتوحة أساساً كالشوارع والأسواق، وهنا يمكن للقارئ أن يلاحظ انشغالها في الانتقال بالمكان من صيغته الحقيقية إلى مرجعيته الرمزية، على نحو ما نجد في وصف شوارع المخيم وجدرانها؛ إذ يمرّ بصر حوّا "فوق خرائط فلسطين العشوائية المرسومة ببخاخ لوني أحمر، كبقع دم مرشومة على الحوائط، وعبارات (عاشت فلسطين) و(غزة تقاوم) تجاور رسوم قلوب حبّ متفاوتة الأحجام والألوان"، ص34. فإذا دخلت حوّا سوق المخيم دخل القارئ معها مهرجان الألوان البصرية؛ حيث "أهرام من الفاصوليا والخيار والفلفل والخبيزة والخس تكسر خضرتها المفرطة سهول البطاطا الممتدة فوق الطاولات"، ص104. أما الحافلة/ المكان المغلق الذي فتحته حزامة، فتفوح منه رائحة الفقر والعذاب: "يعتلي الركاب الحافلة بأجساد مطأطئة، منحشرين، بصعوبة في المقاعد الضيقة التي تزداد ضيقاً مع أجسادهم المتضخمة من المعاطف الثقيلة والجاكيتات المبطنة بلبادات وحشوات متكتلة"، ص39.
على أنّ البيوت التي تنتمي إلى المكان المخيمي (بيت موسى ـ بيت نظمي) تمتاز بمواصفات تتناقض مع البيوت التي تنتمي إلى خارجه (بيت ست قمر ـ بيت درة العين)، فقد كان لزاماً على من أراد أن يحسّن معيشته، أو يغيّر مواصفات سكنه أن يختار مكاناً خارج المخيم؛ دون أن يحاول إصلاح بيته؛ إلا في حدود تشذيب "خزق"، كذلك الخزق الذي شذّبته حوّا في بيت نظمي الذي يتألف "من غرفتين مفتوحتين على بعضهما بواسطة خزق بيضاوي الشكل، كأنه أُحدث بانفجار قذيفة في الحائط، ظل لفترة بعد زواجها بلا باب، إلى أن اضطرت حوا بعد أن أنجبت إلى تشذيب جوانب الخزق، وتركيب باب خشبي سحاب فصلته على مقاس الخزق المحيّر عند النجار"، ص ص80ـ81.
وتمكن الإشارة إلى البيوت النقيضة/ البيوت الثرية من خلال مثال بيت ست قمر (والثراء هنا لا يعني الثراء الفاحش، فكل بيت فيه غرفة للضيوف أو شجرة أو فسحة ما يعدّ بيتاً ثرياً بالنسبة إلى بيوت المخيم)، وعليه فإن الوصف ذاته ينتقل من السرد الحميمي الذي يجسده الفقر إلى السرد التصنيفي الذي يجسّده الثراء النسبي. ويمكن لنا أن نلاحظ مثل هذا الوصف التصنيفي لبيت ست قمر، حيث يتوقف السرد ليتيح لجغرافية المكان أن تتشكل بعيداً عن تدخّل الشخصيات: فالشقة (شِرْحة بِرْحة) كما وصفتها رابعة لجاراتها، وقد تألفت "من ثلاث غرف نوم وحمامين وصالة وصالون كبير قسّمته ست قمر إلى جزأين، وضعت في الجزء الأكبر طقم كنب فرنسياً من قماش الساتان الأزرق النيلي المعشّق بورود بيج مذهّبة....."، ص45. أما المساحة الأصغر من الصالون فقد "خصصتها ست قمر لطاولة سفرة بيضاوية طويلة من خشب الجوز توزّع حولها اثنا عشر كرسياً بظهور من الخشب المحفور المفرغ، ومقاعد منفوخة من الإسفنج القاسي المنجّد بالساتان الأزرق النيلي"، ص45.
ولعلّنا نشير إلى ظاهرة أخرى في التأطير المكاني عند حزامة، وهي ثراء تصوير مظاهر الطبيعة الذي تستخدم فيه لغة مجازية ذات دلالات وارفة، ويمكن أن نمثّل سريعاً بانزواء الشمس قبل أن ننتقل إلى وصف المطر الذي أبدعَتْ فيه أيّما إبداع. تصف الروائية انزواء شمس  الظهيرة، وفعل حوّا تجاه هذا الانزواء فتقول: "تبدأ شمس الظهيرة في الانزواء جامعة أطراف ضيائها المترامي إلى بدنها الشتائي، تضرب البرودة جنبات الغرفة الرئيسية، فتُحكم حوّا إغلاق الشباك، لكنها تبقي الستارة مفتوحة كي لا تُحرم مما تبقى من بياض النهار"، ص136.
أمّا المطر الذي يعني الخير في المخيّلة الجمعية، فإّنه يعني للمخيم مصائب شتى، ويمكن للقارئ أن يستنتج ما يحمله المطر لأهل المخيم (أو لمجتمع الرواية) من خلال لغة الروائية نفسها التي تقول في أحد سياقاتها الافتتاحية: "ضرب المطر الحياة العارية بشراسة. تساقطت حباته حجارة صلدة شقّت قضرة الأرض القاسية. خانجر الماء اخترقت خواصر التراب، في طعنات سريعة متلاحقة"، ص7.
هذا المطر الذي خرج إلى الدلالة النقيضة لما هو مألوف في الوجدان الشعبي استمرّ "سبعة أيام في النهارات التي قصرت شمسها، فبُحّ فيها الضياء إلى درجة التلاشي، وفي الليالي التي غلظت ظلمتها، وأطبقت سماواتها على أقمارها ونجومها"، ص9. فترك آثاره على البيوت والطرق والناس؛ إذ "فاضت البحيرات على أسطح البيوت، وتناثرت البُرك في مساحات المشي، في حين جرت أنهار ملتوية في الأزقة الضيقة، فألف الناس التقافز في الطرقات الطينية"، ص9. و"سارع بائعو البسطات إلى لملمة بضائعهم المكتظة من الأمشاط وفراشي الشعر والميداليات والنظارات الشمسية  ومحافظ الفلوس الجلدية وحافظات الموبايل التي افترشت جوانب الطرقات (...) فيما هرول الخضرجية لإنقاذ صناديق البندورة والخيار والليمون والبصل والبطاطا ورؤوس الملفوف والتفاح والكستناء والبطاطا الحلوة والمندلينا وحبات البوملي الريانة"، ص8.
هنا، في ظلّ هذا الوضع المأساوي، يصبح المطر نقمة، غير أنّ هذه النقمة تغدو مطلباً وأملاً حين تملأ الزوابع سماء المخيم، فيطلب الناس المطر، ولا فرق بعد ذلك إن أغرقهم أو أغرق الكون، وكيف لا يكون الأمر كذلك، وقد هبّت هذه العواصف بعد مطر دموي نزفته حوّا في أثناء موتها على يد ابنها قيس في نهاية الحكاية؟ إذ لم يبق للحب ولا لمنير شيء، فظلّت عيناه راحلتين وملأت الزوابع سماء المخيم "وتراكض الناس في الطرقات، يحاولون أن يغطوا وجوههم من صفع الرمل. ارتفعت عيونهم إلى السماء المدماة، يمنون الأنفس بمطر زاعق، جارف، داهم، طوفان عظيم يُغرق الكون"، ص361.
أما فيما يتعلّق بالفضاء الطباعي فإننا سوف نتناوله من خلال لوحة الغلاف والعنوان والعتبة النصّية؛ فالغلاف يعرض في هدوء ثري قماش المخمل واليد الناعمة التي تمسكه، وتتيح لرائحته أن تمتد على مدى اخضرار واسع بهيج، بينما يحيل العنوان المكتوب باللون الأبيض على دلالة الطهر والنقاء الذي تمثله حوّا. أمّا كلمة "مخمل" التي اختارتها الكاتبة مفردة نكرة لعنوان روايتها؛ فهي تفيد من التنكير للتعميم، وتحيل على صور بصرية وذكريات لم تقف عند ذكرى ست قمر وحبيبها، ولا عند حوّا وأمنياتها، بل تعدّت لك إلى حكاية درة العين التي ما تزال "تحتفظ بالأثر المخملي العشقي لتلك الليلة، لم يعد الفستان يدخل في جسمها الذي أورق عيالاً وحياة وحباً مديداً، ومع ذلك لم تستطع التفريط به أو حتى إعارته لعرائس كثيرات طلبنه منها"، ص96.
كيف لا، والمخمل يحتمل دلالات الروائح البهيجة؟ فرائحته هي "رائحة الدفء، وهي رائحة السخونة الهاجعة، وهي رائحة العمق، وهي رائحة المدى، وهي رائحة الترف المستحق، وهي رائحة الأنفة والتمنّع، وهي رائحة التمنّي والتشهّي، وهي رائحة النضج: نضج الحب ونضج العمر، وهي رائحة اللحم النظيف، وهي رائحة اللحم المعمّر بالاشتياقات وعرق الرغبات"، ص56.
هكذا كانت تقول ست قمر لحوا، وقد حفظت حوا التجربة، وفهمت ملخّصها إذ رأت في المخمل رائحة الحياة، فسعت، حين فقدت ست قمر بريقها، إلى إنقاذها بالمخمل؛ لتعيد إليها بهجة ذكرى غسان الذي أزاح الضوء عن ليل المخمل ذات أيلول بعيد:
"ركعت حوا على ركبتيها أمامها، أخذت يديها المرتجفتين بين يديها وفركتهما، قائلة:
ـ راح أخيّط لك فسطان مثله وأحلى.
ـ مخمل؟
ـ أغلى مخمل.
ـ أسود؟
ـ أسود زيّ الكحل.
ـ وناعم؟
ـ ناعم وناعم وناعم.. يا أحلى قمر يا ست قمر"، ص253.
وكان من الممكن لنا الانتقال من رائحة المخمل إلى روائح أخرى تؤثث أمكنة الرواية وشخصياتها وأشيائها، لولا أن الأستاذ عمر شبانة كفانا مؤونة البحث عن ذلك في دراسة له حول الرواية بعنوان "رواية مخمل لحزامة حبايب: توهج الحواس الخمس".
فإذا انتقلنا إلى العتبة النصية التي تدلف الروائية من خلالها إلى الرواية، فإننا سنعود إلى ثيمة المطر ذاتها، إذ تُجسّد أحلام أهل المخيم، وتنفتح على الحبّ أيضاً:
"رجعت الشتوية
ضل افتكر فيي
ضل افتكر فيي
رجعت الشتوية"، ص5.
ويغدو الحب مقترناً بفيروز، فقد جمعت فيروز بينها وبين منير، وترددت أغنياتها في أذنيها وفي خيالها في أكثر من مكان، بعد أن ورثت حبها عن ست قمر، وصارت سمة ملازمة لها، حتى إنها حين تزوجت نظمي لم تحتمل بقاءها شهرين دون صوتها، وحين طلبت من نظمي أن يشتري لها مسجلة، رفض ورماها بصفة الفجور ص173، مغلقاً الباب أمام تلك الأمنية التي حققتها باستثمار طمعه، حين عادت إلى بيت ست قمر ؛ لتحقق دخلاً إضافياً للعائلة.
(يتبع...)

 

تعليق عبر الفيس بوك