سالم النجار.. قامة إعلامية وفكرية

د. عبدالله باحجاج

شهادة شاهد عيان

قيادي إعلامي بامتياز، إداري ناجح، مذيع متميز، مُعد برامج، محرر أخبار، مراسل متنقل ينقل الحدث الوطني داخل وطنه وخارجه، مُحاضر ينقل تجربته لطلاب قسم الإعلام في جامعة السلطان قابوس، إنسان في كينونته، اجتماعي في علاقاته.. تلاقتْ في شخصيته التراكمية كلُّ تلكم الصفات مجتمعة، والتي نادرا ما تلتقي في الذات الواحدة.

نتحدَّث هُنا عن الأستاذ سالم بن عوض النجار صاحب الخبرات الإعلامية المتراكمة، المتعدِّدة والمتنوعة، كان قائدي في الإذاعة والتليفزيون، وكان قائدي في إدارة أزمة وطنية من منظور إعلامي، كان من بين مُؤطريني مهنيًّا في بدايات مشواري الإعلامي.

ما يُميزه كقائد شامل، حِسُّه السياسي الإعلامي، وقراءته المسبقة لتداعيات أية خبر أو حلقة إذاعية وتليفزيونية قبل النشر، وهذه ميزة استثنائية، قَّلما تتوافر في أية نخبة فكرية أو قيادة إعلامية، ومثلما كان ناجحًا مهنيًّا، كان ناجحا في قيادته لبيئات نجاح المبدعين؛ سواء لما كَان مدير الإذاعة ومن ثمَّ مدير التليفزيون، وأخيرا المسؤول الأول للمكتب الإعلامي بمحافظة ظفار، عاصر مرحلة تأسيس الإعلام في بداية عصر النهضة المباركة؛ وبالتالي هو من المؤسِّسين الممارسين، ومن الكوادر والأطر التي نفَّذت السياسة الإعلامية في أصعب وأعقد مراحل تأسيس الدولة العُمانية الحديثة.

يملُك جُرأة القيادة، والدفع بالمبدعين نحو اختراق النجاح دون التوقف عند هواجس الفشل أو المخاطر؛ فمن خلال حِسه السياسي المرتفع، يرى أين تكمُن المصلحة العامة؟ وكيف ومتى يشجع الجرأة الإعلامية في مرحلة السلطة المطلقة والإعلام الحكومي حصريا؟

وهنا.. نُورِد مثالًا لإحدى الحلقات التليفزيونية في برنامج "دائرة الضوء" الذي قُمت بإعداد مجموعة من حلقاته؛ فلما مُنعنا من دخول المستشفى بصلالة لتصوير مشهد لطفل مصاب بأحد أمراض الدم الوراثية في العناية المركزة، لم نَجِد من وسيلة إلا اقتحام المستشفى، وقبيل الاقتحام تواصلنا معه، وكان آنذاك مدير التليفزيون، طالبين منه حمايتنا لاحقا، فما كان منه إلا أن قال لنا حرفيا: "لو أردتم الاقتحام معكم لفعلت"؛ لإيمانه بأهمية تصوير المشهد في غرفة العناية، وفي تلكم اللحظة بالذات، ولحسِّه السياسي بأن ذلك سيشكل الفارق لهذا الطفل.

فماذا كانت نتيجة هذه الحلقة؟ أن الطفل أُرسِل على نفقة عاهل البلاد -حفظه الله ورعاه- للعلاج في ألمانيا لمدة سنتين، والآن يمارس حياته مثل أقرانه، ويحمل شهادة جامعية بعدما كان حبيسَ المكان المحدود والزمان القصير، بسبب حالات النزيف المفاجِئة التي تخرج من كل أنحاء جسمه، ويُحتم في فترة زمنية لن تتعدى نصف الساعة إسعافه بسقايات دم جديدة، لم يخش أستاذنا النجار على منصبه آنذاك، وإنما كان حسه السياسي يقوده لتجاوز الممنوعات والبيروقراطيات، ليستشرف النتائج مسبقا.

وهكذا كان النجار قائدًا إعلاميًّا وفَّر بيئات النجاح للمبدعين، وجعلهم يميلون للمهنية انحيازا لذاتها لو على حساب ذواتهم الشخصية، أي كان قائد النجاح بعدما كان يصنع النجاح عندما كان من الممارسين المهنيين، وهذه رُؤية فنية عميقة لشخصية هذا الإعلامي المحبوب، وهى رُؤية ننقلها للتاريخ بعد أن عاصرنا هذه القامة الإعلامية كتلاميذ في مدرسته المهنية والإعلامية، تأثرنا بها كثيرا، واصلت فينا مهنية الالتزام والتضحية بالوقت من أجل إكمال المهمة لتحقيق غاية الرسالة الإعلامية.

ولو حَاولنا تأصيل أداء وممارسة وقيادة هذه القامة الإعلامية بمفهوم التأصيلات والتأطيرات المعاصرة، فيُمكن القول صراحة إنه مارس ما يُطلق عليه الآن بـ"إعلام السلام"، تحت مظلة ما كان يعرف رسميًّا بـ"الإعلام التنموي"، قبل أن يُصبح الآن مصطلح "إعلام السلام"، الشغل الشاغل لدول المنطقة بعد أن خرج إعلامها وصحافتها عن الدور الحقيقي، وأصبح يُؤجِّج ويشحن الأوضاع والتلاعب بعواطف الناس؛ فقد كان يُؤمن النجار بإعلام الدولة وليس إعلام الحكومة، حتى لو كانت مسيطرة عليه؛ لذلك فقد كان يغلُب عليه البراجماتية الوطنية كممارس، والبراجماتية نفسها كقائد دون إغفال أو تجاهل الهواجس الحكومية الضاغطة على القياديين والممارسين الإعلاميين، وهنا تكمن المعادلة الصعبة.

ويوم الأحد المقبل، أي الخامس والعشرين من أغسطس الجاري، سيترجَّل هذا الفارس الإعلامي عن صهوة جواده، بعد أكثر من 45 عاما في العمل الإعلامي العماني، وقيادته الإعلامية لا تزال صالحة للزمان والمكان، بل وتلح المهنة المتجردة للوطن ولقيمه وثوابته وللإنسانية البقاء في قيادة بيئات النجاح، فقلما نجد قائدا أو إعلاميا بخبراته أو بحسه السياسي، أو إخلاصه لوطنه وسلطانه، أو توظيفها لتمثيل وطنه خارجيا؛ فهو الخبير بسياسة بلاده وبتحديات وطنه الجيوسياسية، فهل وصلت رسالتنا؟

أستاذنا العزيز، لن ينسى وطنك بصماتك على مسيرته الإعلامية أبدًا، ولا انعكاساتها الإيجابية على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية أثناء مرحلة بناء نهضته الشاملة، خاصة في مرحلة السبعينيات التي كانت مُفترق طرق بين مسيرين؛ أحدهما كانت تقوده النهضة المباركة، وتتطلع من خلاله إلى المستقبل، والأخر يحاول بقاءنا في أتون الماضي وصراعاته، فكنتم من الأنوار التي حملت شعاعَ النهضة لكل بيت وقرية، ورفعتم منسوب الأمل في المستقبل الواعد الآمن والمطمئِن؛ لذلك، فاسمكم يرتبط بهذه المسيرة المباركة، والعذر منكم إن قصرت في إعطاء ملامح لو سريعة عن سيرتكم الإعلامية كما رأيتها وعاصرتها كتلميذ في مدرستكم المهنية الإعلامية.