نعمة السلام الداخلي

مدرين المكتومية

في كلِّ مرة أُغادر فيها أرض الوطن الحبيب، أتعمَّد تلمُّس ذرات ترابه بيدي، فترتسمُ على وجهي ابتسامة خفيفة ونظرة لامعة في عيني، ويضطرب قلبي وتتشتَّت الأفكار في ذهني، وطوال فترة مكوثي خارج الوطن أشعُر بوحشة وغربة لا تستطيع الكلمات أن تُعبِّر عن حقيقتيهما.. ودائما ما نَازعتني الأسئلة وتقافزتْ في رأسي باحثة عن إجابة حول هذا الشعور الغريب؛ فالسفر لن يطول والعودة بإذن الله تعالى متحققة، فلِمَ القلق والاضطراب دائما؟!

الابتعادُ عن الوطن أمرٌ بالغ القسوة، حتى ولو كان لأيام معدودات؛ فهذا طبيعي مع جميع الجنسيات وفي كل دول العالم، لكنْ ثمة أمرٌ مختلف في بلدي عُمان، فهُنا فقط على هذا التراب الطاهر وهذه الأرض الغالية ينعَم العمانيون بسلام داخلي لا يُضاهيه سلام في أي بقعة على وجه الأرض، وهذا أمر بعيد كل البعد عن أي شعور بالشيفونية، بل إنها مشاعر وطنية صادقة لا تحتاج إلى دليل أو برهان لإثباتها عمليا. فلنا أن نذهب إلى بلدان أخرى حتى نرى ونعايش طبيعة المواطنين في تلك البلدان، ما بين صراعات وفتن ومشكلات اقتصادية طاحنة وغيرها من المتغيرات.. لكننا في سلطنتنا الحبيبة ننعم بالسلام الداخلي الذي يُرافقه استقرار اقتصادي ونِعَم أخرى عديدة لا يتسع مقالي لذكرها.

عند عَوْدتي لمجتمعي ووطني بعد كل مرة أسافر فيها، تعود إليَّ حالة السلام الداخلي تلك التي ننعم بها نحن العمانيين، متصالحون مع ذواتنا وراضون بما قسمه الله لنا من أرزاق وخيرات ينعم بها الوطن. أحمدُ الله أننا لسنا كشعوب أخرى ديدنُها الخلافات وارتفاع الصوت في كل صغيرة وكبيرة، أو شعوب أخرى تميل نحو العنف في حياتها اليومية، وهذا لا ينتقص من احترامنا وتقديرنا لكل شعوب الأرض، بل إننا نفند ما نتمتع به من سكنية وسلام واستقرار.

المتتبع لهذا الأمر يجد أن هناك مجموعة من العوامل والظروف المتعددة التي أسهمت في صقل الشخصية العمانية، فمن الناحية الجغرافية، تطل بلادنا على ثلاثة بحار جعلتها تتعايش وتتقبل الآخر بصورة أو أخرى، وتحولت مدننا الساحلية إلى ساحات مفتوحة للجميع من أقطار العالم، نستقبلهم تجارا وسائحين ورحالة، ونحن أيضا استطعنا أن نُبحر إلى كل أرجاء العالم لا تحُدنا حدود، ولا تمنعنا أمواج البحر العاتية. وتاريخيًّا، كانت عُمان إمبراطورية ممتدة، حضارتها ضاربة في عمق التاريخ الإنساني، كما أن الانسان العماني سافر وارتحل وعمل بكل جد واجتهاد لتحقيق ذاته وصناعة تاريخه ليسطر عبارات المجد العماني في كل بلد تطأها قدماه. لذا عاشت عُمان -ولا تزال بفضل الله- في لحمة اجتماعية وانسجام داخلي أساسه السلام النفسي والهدوء، وهو ما يفسر العشق الذي يبديه كل زائر لبلادنا بعدما يرحل عنها، ويود أن لو يعود مرة أخرى ويقيم هنا إلى الأبد.

... إنَّ المحبة والتسامح والسلام النفسي الذي يتمتَّع به كل عُماني، هي القيم التي أسهمتْ في بناء الشخصية العمانية، وبلورت رؤية العالم حوله، وساعدته على التعايش مع كل المتغيرات التي تحيط به. ومن هذا المنطلق، ينبغي علينا نحن أبناء هذا الوطن المعطاء أن نصون هذه القيم ونحافظ عليها، ولا نسمح للعادات الدخيلة أن تطغى علينا، وأول وسائل الحفاظ على هذه القيم أن نغرسها في نفوس الصغار والشباب، أن نُربِّي الأجيال الصاعدة على ما نشأ عليه آباؤنا وأجدادنا.. على الحب والوئام والسلام، فيتحقق الاستقرار والرخاء.