كن صاحب قضية

 

حميد السالمي

يتحدث عن نفسه: لقد اتخذت قراري أخيرا واتجهت نحو العمل العسكري مكرها، كنت واثقا أنّ المكان وبيئة العمل لا يتناسبان مع أفكاري وتطلعاتي، بيد أنّ الحاجة كانت ملحة حينها، معزيا نفسي بأنّه ارتباط مؤقت والغاية تبرر الوسيلة ريثما أجمع شتات نفسي وأجدد الثقة نحو الوقوف مجددا على عتبات أحلامي مستعيدا أنفاسي المفقودة وذاتي الضائعة بين ردهات عالمي الكئيب، ذلك العالم الذي قضيته على هامش الحياة طويلا.

ولأنّ "الحياة منفى قصير" لم تكن فترة التدريب الأولى بالهينة، إلا أنّها كانت بمثابة المحك الحقيقي الذي أظهر قواي الخفية، تلك القوى التي اختبأت لسنوات تحت "وسادة" كنت أتكئ عليها عند متابعتي التلفاز، أو خلف "دشداشة" أنيقة ومرتبة لم أفصلها من جيبي الخاص، وربما كانت تنأى عني كلما استلقيت على فراشي واستيقظت بعد طلوع الشمس، أو أدمنت السهر لمتابعة "دوري أبطال أوروبا" فأصبحت تلك القوى رهن قيد الكسل والضياع والممارسات التي لا طائل ولا خير يرتجى منها.

لم أكن أدرك قدرتي على الإنجاز وسط صخب العمل والجهد، ركض لعشرات الكيلومترات يوميا وحصص تدريبية تحت أشعة الشمس الحارقة في الظهيرة، جهد بدني منقطع النظير وساعات نوم قليلة جدا وتغذية متواضعة يقابل كل ذلك طاقات متفجرة لا محدودة وقدرة عالية على التركيز والعمل و "الضبط والربط" هوية جديدة وفكر مختلف ونشاط استثنائي، كل ذلك وأكثر ظهر بين عشية وضحاها وكأنّي أيقظت (العملاق) الذي بداخلي وأطلقت له العنان.

رغم الضغوط النفسية ولحظات الضيق والتعب، كان ولا بد من تحفيز داخلي يُبقي على جذوة العزيمة متقدة، فكانت همّتي وإرادتي تُظهر وتعكس للآخرين قوة وشخصية مثاليتين، فكنت مصدر الإلهام لمن هم حولي، فتارة أوجه هذا وتارة أحفز ذاك، فكانت الثكنة رقم ٢ بمثابة المصحة النفسية لكل من أنهكه التعب وأصيب بإحباط وانكسار، بين شكوى وتذمر وانهيار نفسي، كنت أستمع بصدر رحب محاولا إحداث التغذية الراجعة مع إدراكي بأنني أحوج لكلماتي منهم.

لم أختلط يوما بهذا الكم الهائل من البشر مختلفي الأصناف والعقول والتوجهات والأفكار والأخلاق، كانت مدرسة حياتية تختصر لي السنوات الطوال من العمل والسفر والتعلم، وكنت أحاول تغذية نوازع التفاؤل بداخلي وكما قيل: "المتشائم لا يرى من الحياة سوى ظلّها" فلا تكاد تمضي ساعة دونما حدث أو موقف أو قضية، فالدروس هنا ليست تنظيرية بل تطبيقية واقعية، والمشاكل لاتنتهي والعقبات متجددة، والعقل يعمل بين هذا وذاك، متلقياً اختبارات حقيقية تجعل المبادىء والقيم والأخلاق بمحك صعب، وتُكسبني القدرة على اتخاذ القرارات ملقنةً إياي دورات وفنونا متعددة في القيادة والإدارة وفِرق العمل والصبر  وغير ذلك الكثير.

هذه الظروف تُمحِّص الذات، وتصقل الشخصية وترفع من وتيرة عمل العقل ونشاط الذهن، هنا تذكرت قول (واين كريتزكي): "ستفقد كل الفرص التي سنحت لك بمجرد أنك قررت عدم محاولة استغلالها" فصاحب الرسالة في هذه الحياة والنظرة الثاقبة والعارف لأهدافه وغاياته سيُحوّل كل تلك الأحداث لدروس مستفادة وخبرات نموذجية يرفد بها كيانه ويعزز قدراته وإمكاناته بها، لتُكسبه أدوات مثالية تعينه مستقبلا للمضي نحو مسارات الحياة ودروبها متلقيا كل أحوالها بإيجابية وكفاءة عالية وقدرة استثنائية لرسم معالم الغد والمستقبل وتحقيق أسمى الغايات وأنبلها في هذه الحياة.

إلى من يهمه الأمر:

"لا تنتظر أن تسنح لك الفرصة غير العادية، بل انتهز الفرص العادية واجعلها عظيمة"، إبراهيم الفقي.

تعليق عبر الفيس بوك