ذكرى يوليو بارقة أمل النهوض

عبد الله العليان

في عام 1968، عاد والدي رحمه الله إلى أرض الوطن عندما كان الكثير من العُمانيين يعلمون في بعض الدول الشقيقة، في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وكانت محافظة ظفار، تعيش أجواء الثورة آنذاك، ونسمع نحن في مدينة صلالة، أصوات القنابل يومياً، والحياة رتيبة ومضطربة إلى حد اليأس عند البعض، كما أنَّ حركة النشاط المعيشية شبه متوقفة عامي 68/ و69، وكل أسبوع يمر نسمع أخبار هروب الشباب عن طريق البحر إلى الجبال، وقد مات العديد منهم، جراء توغلهم في البحر أثناء الهروب للتخفي من كشافات الحراسة بمدينة صلالة والضواحي القريبة، ومنهم من أصدقاء الطفولة رحمهم الله الكريم وهذا الهروب أغلبه من أجل العيش الكريم والتعليم، وكان الوالد أثناء عزمه على العودة، طلب منه الكثير من المُغتربين، حمل بعض الحاجات المُختلفة، لأسرهم من ملابس، ومنهم مبالغ، وعندما وصل إلى صلالة بالباخرة، مع عدد من المُسافرين، ونزلت البضائع إلى الجمرك بالمدينة، جاءه أحد العاملين بالجمارك، وطلب منه قائمة من أرسل معه هذه البضائع إلى أصحابها، وقال له هذه القائمة ستُرفع إلى جلالة السلطان سعيد بن تيمور، كتب الوالد قوائم البضائع مع أسماء أصحابها، وأخذ الموظف القائمة المكتوبة، وذهب بها إلى قصر الحصن، وفي اليوم التالي جاءت التعليمات، بأن تبقى حاجات من له صلة بالثورة، أو هرب دون رخصة رسمية في الجمارك، ويمنع على أصحابها استلامها، وبعد تولي جلالة السلطان قابوس، أعطيت الحاجيات لأصحابها بعد أكثر من عامين.

وبحكم أنَّ الوالد رحمه مارس التجارة قبل سفره، أستأجر دكاناً بالحصن، وكانت المحلات التجارية تقع ضمن سور الحصن في ذلك الوقت، وهذا ربما شكل أماناً في ذلك المكان، في ظل محدودية النشاط التجاري آنذاك، وكانت ظفار تعيش وضعاً استثنائياً صعباً، وعشنا نحن ذلك الجيل الذي عاش تلك التجربة بمصاعبها ومحنتها بكل تفاصيلها، خاصة في أواخر الستينيات من القرن الماضي ـ وسيكون لي مشروع كتاب قادم بإذن الله كتسجيل للذكريات ـ وقد وعينا على الأحداث التي تجري في بلادنا، وفي ظفار بالأخص، كان ميناء عدن في جنوب اليمن هو الوحيد الذي تأتي منه احتياجات ظفار منذ الخمسينيات وما قبلها تقريباً، وبعد انسحاب بريطانيا من الجنوب 1967، واستلام الجبهة القومية الحكم بعد صراعها مع جبهة التحرير، تراجع النشاط التجاري بشكل ملحوظ بحكم التطبيقات الاشتراكية، حيث أممت الكثير من الأعمال الخاصة والحرة والمباني التجارية أصبحت بيد الدولة، فلم يعد ميناء عدن كما كان وأصبح مُتراجعاً كبيراً، وبدأت بعض السفن تأتي ببعض البضائع من دبي من خلال السفن من صور وصحار لكن بشكل محدود، بحكم العلاقة التجارية القديمة بين صور ومرباط، وبقي الأمر يزداد صعوبة في العامين الأخيرين، قبل عام 1970، مع تزايد ضربات الثورة لبعض المواقع العسكرية، ونزولهم إلى بعض الولايات وخطف البعض من أماكنهم بدعوى علاقتهم بالسلطات المحلية ـ وأغلب هؤلاء الذين خطفوا وأعدموا كانوا مظلومين نتيجة وشايات لخلافات شخصية، كان ـ جلالة السلطان ـ قابوس ـ بعد عودته قلقاً من الوضع القائم ومخاطره على السلطنة في ظل تلك الظروف، من خلال اطلاعه ومتابعته لما يجري في عُمان عموماً، وظفار على وجه الخصوص.

 ويبدو أنَّ السلطان سعيد بن تيمور رحمه الله، أبقى على الأمور كما هي، دون التحرك للتغيير، وفتح آفاقاً للتنمية والتعليم داخل البلاد، وهذا ما من شأنه أن يزيد في التمرد والعصيان، وهذه طبيعة بشرية والبقاء على الحال من المحال كما يقول المثل العربي، وفي أواخر 1969، بدأت بعض التسريبات بأن ـ السلطان ـ قابوس سيتولى مقاليد الحكم، وأن الأمر يبدو قريباً، وساد بعض الفرح في أوساط المواطنين، لكن البعض مع سعادته بتولي ـ جلالته ـ مقاليد الحكم، كانت نظرته للثورة إيجابية آنذاك، ولم يطلع على الكثير من التغيير في فكر الثورة ونزعتها الشمولية الحادة بعد مؤتمر حمرين 1968، وقد ذكرت في مرات سابقة، في كتاباتي السابقة عن تلك الليلة الخالدة في ذاكرة العُمانيين، عشية تولي جلالته مقاليد الحكم ـ يوم الخميس الثالث والعشرين من يوليو ـ ما هو مصير الأوضاع القائمة من حديث البعض وهذا ما تابعته في ساحة ميدان الجامع بصلالة، بين بعض الواقفين في الميدان المتابعين للحدث التاريخي الكبير وخروج المواطنين استبشاراً بهذا التغيير: كيف يكون وضع الثورة في ظفار بعد تولي جلالته؟ رد أحدهم: إن الثورة ستنتهي تماماً؟ وهذا الشخص نفسه، أحد إخوته من كبار قيادات الجبهة الشعبية آنذاك، لكنه وضع التقييم وموازين الواقع، كما توقعها بعيداً عن العلاقة والقرابة، ورد عليه الآخر لماذا وكيف ستنتهي؟ قال: بالتنمية وحركة النشاط التجاري، وفتح الأبواب، ورفع قوائم الممنوعات، هي التي ستنهي هذا الأزمة وآثارها، والقضاء على الأسباب، التي دفعت إليها، هي التي ستعيد الاستقرار، والناس قامت من أجل التغيير ومسايرة ما يجري في العالم من نهضة وتقدم، والكثير من هؤلاء الذي أسسوا الثورة، كانوا في الخارج، وأن السبب الذي دفع العمانيين للتغيير وحمل السلاح، عندما شاهدوا الفرق، بين الوضع في بلادهم، والبلدان الأخرى التي زاروها أو عملوا بها، أو ذهبوا للدراسة، وهي التي أوحت لهم ذلك، إلى جانب المد القومي واليساري، في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي الذي يموج بهذه التيارات.

وجلالته بعد توليه الحكم، وحديثه لبعض الصحفيين العرب والأجانب أجاب عن مصير ظروف الثورة في ظفار في بداية السبعينيات وكيف يعود السلام فقال :"طريقنا للقضاء على الثورة هو القضاء على أسبابها، وتوعية الناس، تعمير ظفار ببناء الطرق والمستشفيات والمدارس. أسباب الثورة في الماضي كانت مشروعة كانت ثورة على التخلف والجهل. لم تكن هناك من وسيلة للتعبير إلا حمل السلاح والعنف.اليوم تغيرت الأمور بدأنا نوفر فرص التنمية ساعين للتعاون مع الناس فاتحين أبوابنا للشكاوي. إن اقتلاع جذور أسباب الثورة يحتاج الوقت". وتحققت هذه الأهداف التي رسمها القائد المفدى لنهضة عُمان، وعاد كل أبناء عمان إلى وطنهم، والمشاركة في بنائه وتقدمه.. وفي هذا اليوم نستعيد هذه الذكرى الوطنية المجيدة ونتطلع للمستقبل القادم بفعل سواعد الأبناء لحمل رسالة هذا الوطن العزيز.