"لكي يولوا اهتماما أكبر لمشكلات شعبنا"

د. سيف بن ناصر المعمري

نستحضر هذه الفترة ذكرى 23 يوليو المجيد؛ اليوم الذي كان نقطة انطلاقة لتأسيس نهضة عمان الحديثة التي مضى عليها خمسة عقود حافلة بالإنجازات التي لا يمكن أن ينكرها أحد؛ فهي ماثلة في كل مكان من حولنا؛ وذلك بفضل الرؤى التنموية التي أرساها قائد النهضة صاحب الجلالة السلطان المعظم؛ وهي رؤى ومبادئ لا يمكن أن تُنسى رغم المسافة الزمنية التي تفصلنا عنها، فخمسة عقود ليست بالفترة الزمنية الهينة حدثت خلالها العديد من التحولات على مختلف المستويات؛ فلم يعد الشعب كما كان بسيطا صغيرا ذا متطلبات محدودة؛ ولم تعد الحكومات كما كانت أيضا قريبة من الواقع؛ ملتصقة بالأحداث على الأرض؛ بسيطة في متطلباتها؛ صغيرة في تعدادها؛ ولكن التحولات لا يجب أن تطال المبادئ والقواعد الرئيسية التي تحرك العمل الحكومي؛ فالمبادئ عادة ثابتة لأنها الإطار الحاكم الذي يمكن من خلاله الحكم على الممارسات الحكومية، ولكن يبدو أن المبادئ أيضا تتغير، وعلينا أن نسترجع في هذه الذكرى بعضًا من هذه المبادئ التي ربما في زحام التحولات نسيها البعض ممن هم في موقع المسؤولية؛ فاحتفالنا بهذه الذكرى ينبغي أن يكون فرصة ليس لاسترجاع الإنجازات فقط، وإنما لاسترجاع الأسس التي تحكم عمل الحكومة؛ وهي اليوم ضرورة لكي يتم العمل وفقها سيما في تعقد الإشكاليات الاقتصادية، والتي كان قائد النهضة واعيا لها منذ البداية، والمبدأ الذي نود أن نتوقف عنده ونحن نحتفل بهذه المناسبة هو الذي أكد عليه صاحب الجلالة في الذكرى السادسة للاحتفال بذكرى 23 يوليو؛ حيث قال: "إننا نعلم مع ازدياد عدد السكان أن مشاكل الأفراد ستزداد؛ لذلك فقد أصدرنا أوامرنا إلى وزرائنا لكي يولوا اهتماما أكبر لمشكلات شعبنا... وأن يخدموا الشعب بكل مقدرتهم ومساعدة الأهالي على حل مشكلاتهم".

إنَّه إذن تأكيد منذ فترة مبكرة على الوظيفة الحقيقية للحكومة بشكل عام، ووزرائها بشكل خاص، وهي خدمة الشعب؛ والعمل على تنميته وحل مشكلاته؛ والتكليف هذا يعبر عن نهج لابد من الالتزام به، ولقد عبر عن هذا النهج بكلمة عميقة جدا لا مجال للتأويل في معناها؛ وهي: "خدمة الشعب"؛ أي استثمار كل إمكاناتها ووقتها لخدمة الشعب وتنميته وتحديد إشكالياته وحلها لكي تخفف وطأة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه هذا الشعب، ويوجه كل طاقاته للتفكير والإبتكار والإبداع الذي يُعزز قدرات هذا الوطن، ولكن كيف يمكن أن نقرأ هذه الرسالة التنموية السامية التي أُطلِقت منذ ما يقرب من واحد وأربعين عاما في هذا الوقت الذي نما فيه عدد سكان البلد، ولكن النمو الطبيعي جدا الذي توافق مع نمو البلد واقتصادها ومكانتها، وفي ظل تزايد الإشكاليات التي يعاني منها أفراد هذا الشعب خاصة الاقتصادية؛ حيث زادت الرسوم والضغوطات الاقتصادية عليهم، في ظل ثبات الدخل وتوقف الترقيات إلى آخرها؛ وأيضا في  ظل تزايد مشكلة الباحثين عن عمل، ووصول العدد إلى أرقام غير مسبوقة، مؤكدة على فجوة كبيرة بين التعليم وسوق العمل مُكلفة اقتصاديا ومستقبليا؛ حيث اضطر هؤلاء الشباب إلى ترك مؤهلاتهم جانبا والعمل في وظائف لا تتطلب مؤهلات،  وهي إشكالية عقود وليست إشكالية طارئة، مما يعيدنا إلى النهج الذي خصص للحكومة في هذه الفترة وهو أن "يولوا اهتماما أكبر لمشكلات شعبنا"، فهل تم أخذ الأوامر على محمل الجد؟

هو سؤال نطرحه لا نريد منه النيل من جهد أحد؛ ولكن كل ما يجري على الواقع اليوم يُلح علينا لمواجهة هذا السؤال، فهو ليس سؤالا مرتبطا بالماضي، ولا مرتبطا بالحاضر، إنما أيضا مرتبط بالمستقبل الذي يقول لنا لن يتحقق أي شيء إلا إذا أدركت الحكومة ووزراؤها أنَّ مهمتهم كبيرة ومسؤوليتهم عظيمة، ولابد أن يقوم بها، وهي العودة للتركيز على مشكلات الشعب وجعلها موضوع الاهتمام؛ بدلا  من سياسة الهروب منها تحت مبرر عدم المسؤولية عنها؛ أو عدم القدرة على حلها، أو عدم توافر موازنات للعمل بالحلول؛ فمثل هذه المبررات تعني بُعدا عن هذا النهج السامي، وتقود لاتساع الفجوة بين الحكومة التي تنصرف إلى شؤونها ومصالحها وبين الشعب الذي يتطلع إليها متأملا راجيا أن تلتفت إليه لتقوم بواجبها، وأن تذهب إليه؛ حيث يكون لتستمع منه وتعاين مشكلاته ومتطلباته ولكنها لا تذهب، ولا تريد أن تنزل إليه من مكاتبها ومواقعها، ولا تسمح له هو أن يصعد إليها حيث تكون؛ فكيف في ظل هذه المعطيات أن نجد مؤشرا على تطبيق  متخذي القرار المعنيين بهذا الخطاب: "إيلاء اهتمام أكبر لمشكلات شعبنا"،  وأن "يخدموا الشعب بكل مقدرتهم"؟

إنَّ الواقع يُحتم التفاتة إلى مبادئ النهضة؛ ومهام الحكومة التي تم التأكيد عليها في مختلف الخطابات السامية؛ ومنها الخطاب الذي هو موضع نقاشنا في هذا المقال؛ لأنه بدون إدراك من الحكومة إلى أنها في خدمة الشعب؛ وأن كل ما تملكه من إمكانات موجَّه للنهوض بالشعب، وحل مشكلاته بطرق مبتكرة، والحفاظ على الأموال العامة، وادخار الفرص له؛ ستظل العلاقة مختلة جدا، والفهم متضارب للأدوار والمهام؟ هل من مؤشرات إيجابية على الاهتمام بمشاكل الشعب أن تتوجه وزارة إلى منح مناقصات لجلب مدرسين بدخول مرتفعة من خارج البلد في وقت يجلس فيه عشرات الخريجين بدون عمل؟ هل من مؤشرات إيجابية على أن يسلم مُتخذ قرار أمور وزارته بدون تدقيق ومتابعة إلى فئة من موظفيه تقوم باختلاس عشرات الملايين في وقت يتم فيه حرمان الموظفين من مكافآتهم البسطية؟ هل من المعقول أن تخرج الزيارات الرسمية في زمن التقشف بتكاليف باهظة إلى الخارج في وقت يتم فيه فرض رسوم عالية على الخدمات التي يحصل عليها المواطنون؟ هل من المعقول أن تندر الزيارات التفقدية للولايات والمحافظات للوقوف على مشكلات الناس، وفي الوقت نفسه يعزل متخذو القرار أنفسهَم عن المواطنين الراغبين في شرح مشكلاتهم؟ هناك عشرات الأمثلة التي يُمكن أن تُطرح تُعبر عن البُعد عن هذا النهج وهذه المسؤولية التي حدَّدها صاحب الجلالة السلطان المعظم لحكومته لتؤديها بكل أمانة من أجل أن يعيش هذا الشعب العظيم في أمان واستقرار ورفاه، يجب أنه كلما اشتكى منا عضو تتداعى له مختلف أجهزة الحكومة ووزاراتها بالاهتمام والحلول والسهر والمتابعة، والتخفيف، وإذا كان الشباب اليوم عماد الوطن يتشكون من قلة التوظيف، وذوو الدخول المحدودة من زيادة الرسوم، وذوو التجارة المتوسطة من الإجراءات المعقدة والرسوم، والمتعلمون والأهالي من انخفاض جودة التعليم...إلخ، فمتى ستتداعى الوزارات المعنية للتخفيف عن هؤلاء المواطنين، وخدمتهم كما يجب؟ سؤال لليوم والغد، ولمن لا يزال يذكر هذا المبدأ الذي بُث في الذكرى السادسة من يوليو المجيد: "إننا نعلم مع ازدياد عدد السكان أن مشاكل الأفراد ستزداد؛ لذلك فقد أصدرنا أوامرنا إلى وزرائنا لكي يولوا اهتماما أكبر لمشكلات شعبنا... وأن يخدموا الشعب بكل مقدرتهم ومساعدة الأهالي على حل مشكلاتهم".