كتاب يستغيث!


زهراء طالب | روائية من العراق
كانت غرفة مظلمة باردة، انتشرت فيها رائحة غريبة، دبت الرطوبة أوصالي، كنت أقبع منزويا على ذلك الرف العلوي في المخزن لسنوات طوال، بت غير قادر على إحصائها. كفنتي أتربة الزمن عنوة، حولت لون غلافي الأحمر البراق إلى لون رمادي قاتم يليق بالموتى.
لا زلت أذكر رائحة الورق الطازج الذي يخرج من فم المطبعة، كم كنت متفاخرا بطبعتي الحديثة، كان القراء يتزاحمون للحصول عليها مهما بدا الثمن باهظا. تفاخرت حينها بين أقراني، كان ذلك في عهد بعيد لا يمت للحاضر بصلة، حيث كان الناس يقرؤون والجهل كانوا يمقتون!
كان زمنا بعيدا، وضعت فيه بعناية على هذا الرف، اعتبرته نوعا من التشريف الذي يليق بمكانتي الأدبية كمرجع يشار له بالبنان. كنت متفاخرا بتلك الأنامل التي خطتني بصفحات تجاوز عددها الألف. لطالما شعرت بالنشوة بينما يستعين من يقتنيني بكلتا يديه ليحملني، وكأنه يحمل كنزا يحتضنه بشغف بين ذراعيه.
مرت سنون طويلة، لا زلت أنظر إلى تلك الستارة المظلمة، التي حجبت الشمس عن هذا المخزن الكئيب، انتشرت رائحة الموت في أركانه مع كل ذلك السعال والتأوهات التي تصدح من أفواه الكتب المنسية الأخرى. لا أعلم ما الذي حصل خارج هذه الغرفة المقيتة، هل انقرض البشر أم تغيرت أحوالهم فما عادوا يعرفون لنا طريقا؟ هل نسونا أم تناسونا؟ كم اشتقت للشمس ولمزاح أشعتها وهي تدغدغ صفحاتي.
لم يكن الغبار آخر المطاف، طرقت المصائب كل أبوابي، شعرت يوما بأطراف خفيفة تتلصص فوق غلافي، تخط طرقا فوق تلك الأتربة المكدسة عليه، أمعنت النظر لأجد دابة بأرجل ثمانية استباحت جسدي، كان عنكبوتا قبيحا تجرأ بنسج بيته إعدادا لوليمة، كتب عليّ أن أكون المائدة فيها. كم كان وقحا عندما رد على معارضتي بالقول:
ألا يجدر بك أن تسعد؟ سيكون لك قيمة ومكانة كمائدة أفضل من جلستك المملة هذه!
كانت السنوات ثقيلة رتيبة، نخرت نتانة الهواء في الغرفة صفحاتي التي استسلمت معلنة المشيب. بدا يوما عاديا، سمعت صوتا مدويا في الخارج، اهتزت معه الرفوف في المخزن، ارتعشت صفحاتي معها. لحظات هدوء، أعقبها وهج اجتاح الظلام على حين غفلة، رأيت الستارة تأكلها النيران الجائعة، كانت من الشراهة ما جعلها تندفع بسرعة تبتلع ما تصادفها من دون تفكير. ارتفعت حرارة الغرفة كثيرا، تلألأت النيران فيها، شعرت بحبات عرقي تتساقط تبلل صفحاتي الدامعة، سرعان ما كشرت النيران عن أنيابها، وقفت قبالتي متأهبة لابتلاعي، صرخت مستغيثا: ماذا حصل؟ أجابتني مزمجرة: الناس في الخارج يتقاتلون، ينبش بعضهم لحم بعض، وأنا وليدة صاروخ زرع في الجوار. كان ذلك آخر ما سمعته قبل أن أتحول إلى رماد.

 

تعليق عبر الفيس بوك