ليانة بدر في "الخيمة البيضاء"(1-3)


أ.د. يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات


حين تحتلّ الأيديولوجية المشهد السّردي

أولاً ـ تمهيد:
تأتي رواية "الخيمة البيضاء" للكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، ضمن سياق روائي مستمرّ تنتهجه الكاتبة لتغطية الوضع الفلسطيني منذ روايتها الأولى "بوصلة من أجل عباد الشمس" التي صدرت عام 1979. وتغطّي هذه الرواية نحو ثلاثين عاماً من التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها فلسطين.
وعلى الرغم من أنّ تقديم أحداث الرواية في أربع وعشرين ساعة، وفي حيّز جغرافي ضيق، يغري بدراسة فنّية تستقصي أساليب الجمع بين التكثيف الزمني والسرد الروائي، فإنّ احتفال الروائية بالتسجيلية لإنتاج رواية واقعية انتقادية، وحرصها على رصد مرجعيات المشاكل التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني يفرض على النقد دراسة تركّز على الجانب الأيديولوجي الذي طفا على سطح السرد على حساب شعرية اللغة وجماليتها.
في أربع وعشرين ساعة تعاقبية، تكسرها الذكريات والتفاصيل، تبدأ حكاية الرواية مع "نشيد" في دوار المنارة في مدينة رام الله، وتنتهي معها عند حاجز قلندية، وهي تتجه إلى القدس، للإسهام في إنقاذ "هاجر" التي تزوجت حبيبها، فأراد أهلها أن يقتلوها حفاظاً على الشرف.
وبموازاة ذلك يبلغ جارها "عاصي" سنّ الستّين، وهذا ما يمكنه من الذهاب للقدس للمرة الأولى بعد سنين طويلة، فيما يذهب "خالد" ابن "نشيد" كي يطلب من أمه الرجوع، لأنّ ثمة خطراً يتربّص بها، وهذا ما يعرضه لخطر الاعتقال من قبل جنود الحاجز والمعاطات المتتالية، غير أنّ أمه تودعه بدموعها، وتتجه "إلى موقف الباص الذاهب إلى القدس"، ص275، وهي تحدّث نفسها: "مثله مثل الناس، نحنا مش أحسن منهم، اللي بصير عليهم بصير علينا.. ووضعت قدمها على الدرجة الاأولى للباص الواقف في الساحة، وهي تفكّر في أنه حان وقت إنقاذ الفتاة"، ص276.
ثانياً ـ قضايا الرواية:
على أنّ الحكاية ليست كلّ شيء في الرواية، أو لنقل إنها لا تشكّل شيئاً ذا بال في بنيتها، بل هي مجرد خلفية للحفر عميقاً في المشاكل التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً؛ لا بسبب الاحتلال فقط، بل بسبب العلاقات السائدة داخل المجتمع الفلسطيني أيضاً.
فالمجتمع الفلسطيني يسهم في خلق عددٍ من المشاكل التي تتكشف في الوقائع التي تستذكرها "نشيد" في طريقها إلى مقرّ عملها، من مثل ظلم المرأة الذي تسعى طيلة الرواية إلى رفعه: "يكفيها أنها ستشارك في تهريب الفتاة المطاردة وحمايتها من سيف التهديد بالقتل"، ص15. وتتحسر على أيام الثمانينات، حيث كان العدو واضحاً يوزع "ظلمه بالعدل" على الفلسطينيين، "حتّى استغلت بعض القوى الوضع في الانتفاضة الأولى، وشنّت بعض المجموعات حروباً عليهنّ، باعتبارهنّ نكرات لا يستحقّ وجودهنّ سوى الحذر والإخفاء"، ص105. أمّا الآن فقد تسللت قوى "ألرجعية الدينية" لتفرض نموذجاً للمرأة، تسهم في صناعته الأسرة والدوائر الرسمية والمجتمع المدني، كما يتّضح ذلك من خلال السياقات التالية:
•    "كل ما نقوله عن حقوق المرأة كإنسان بتغمّض عينها عنه الكتب المدرسية، وبتخلّي المرأة في المطبخ دوماً، وما ببين إنها بتعمل شي غير خدمة الرجال والولاد"، ص108.
•    "لا يقام معرض نسوي من دون أن يتركز همّه الرئيس وعمله الأساس على عرض مرطبانات المخلل وكبيس الفلفل وكرات اللبنة والزيتون كنتاجات أساسية للنساء"، ص105.
•    "صار شكل نون النسوة مرتبطاً بالطنجرة"، ص106.
وتعرّي الروائية من خلال ما تجابهه شخصياتها ظروف الفساد الإداري الذي جاء بعد اتفاقية أوسلو، مترافقاً مع دخول السلطة الفلسطينية، حيث صار الكل، من المقيمين والعائدين، "يريدون التعيينات والحصول على المناصب، والجميع يحلمون بزج عدد أكبر من عناصرهم في الجهاز الوظيفي، والحصول على تأمينات"، ص23. وانخفضت إنتاجية العمل إلى أدني مستوى لها لأن "الجميع صاروا يتبارون في اختراع مناسبات الفطور والقهوة والغداء"، ص202.
وثمة مشاكل ترصدها الكاتبة من مثل إطلاق الرصاص العشوائي، فرحاً بالأعراس، أو احتفالاً بالشهداء، أو اعتراضاً على ظلم الاحتلال، وقد عرضت نموذجاً لذلك؛ إذ أطلق الشباب الغاضبون النار في سماء دوار المنارة اعتراضاً على استشهاد "حبيب"، فأصابوا صحافياً فلسطينياًعن طريق الخطأ، ما أدى إلى تهتك رئته وإصابته بشلل سفلي تام.
وقد أسهم الاحتلال الصهيوني بتغذية هذه المشاكل وصناعتها، حيث كان يستجلب العمال الفلسطينيين للعمل في المستوطنات، عبر وسطاء فلسطينيين، فأنتج طبقة جديدة من مقاولي الأنفار الذين اغتنوا من جلب العمال البسطاء للعمل معهم"، ص37.
أما صور قهر الاحتلال الصهيوني التي يمارسها جيشه ومستعربوه فأكثر من أن تحصى، وقد عرضت الكاتبة صوراً كثيرة لها، حيث الحصار وحجر التجوال والحواجز والمداهمات والتفتيش واستباحة البشر والحجر والشجر.
فمدينة رام الله تنتقل من حصار إلى حصار، ومن حظر تجوال إلى آخر، دون أن يدرك العالم "أنّ سكان مدينة كاملة ينالهم عقاب المحتلين حينما يفرضون عليهم العيش وراء بوابات السجون، وأنّ عليهم المكوث داخل بيوتهم رغماً عنهم، وأنه غير مصرّح لأي منهم بالحركة حتى لجلب حليب الأطفال، إلا كل أربعة ايام، وخلال ثلاث ساعات إلى أربع؟"، ص95.
وأمّا المستعربون الذين يقتحمون المدن والقرى بحثاً عن مطلوبين وتصفيتهم، فيقتحمون رام الله التي تقدّمها الكاتبة تمثيلاً لظاهرة تنتشر في كل مكان من الأرض المحتلة؛ إذ تقتحم سيارة همر مصفّحة المدينة وتصل إلى دوار المنارة، ويساعدها قناصة ينتشرون على السطوح وطائرة مروحية، بينما يرشقها الشبان بالحجارة:
"ـ هاي جنود ع سطوح البنايات، وهم اللي بيوجهوا الرصاص ع الناس تحت.
قال شاب كان يراقب معهم.
ـ شوفوا الهليكوبتر.
صرخ آخر حين بانت مروحية كانت تقترب من الناس المحاصرين في الدائرة في الأسفل"، ص121.
نتيجة لاقتحام المدينة يستشهد "حبيب" الذي تجرّأ على إطلاق بضع طلقات "قرب المستوطنة التي يحجبها جدار جبّار يستحي من ضخامته جدار برلين"، ص186، وصار مطارداً، ثمّ تجرّأ على اشتهاء الفلافل وخرج من مخبئه ربع ساعة فقط، فخاضوا معه معركة طويلة أدّت إلى استشهاده.
ويمكن أن نستعرض مثالاً لمداهمات البيوت من قبل جنود الاحتلال المشهدَ الذي افتتحت به الكاتبة روايتها، متحدّثة عن ليلة الفايسبوك التي اقتحم فيها الجنود بيت "نشيد"، للبحث عمّا يفكّر به ابنها "خالد"، وابنة جيرانها ""بيسان""؛ إذ "فتّشوا الدار، فتحوا أدراج الخزائن، نكشوا ما شاء لهم، ولم يبقوا شيئاً في مكانه، بل عاثوا فساداً في المطبخ، وخلطوا الأرز بالسكّر بالدقيق، وهم يسكبون المرطبانات، بعضها فوق بعض"، ص9. "وجعلوا الفتاة والصبيّ يفتحان جهازي اللابتوب الخاصين بهما؛ كي يراقبوا المواقع الأخيرة التي زاراها، ثم طلبوا منهما فتح صفحاتهما على الفايسبوك"، ص10.
أمّا عذاب الحواجز، فقد قدّمته الكاتبة من خلال شخصية "لميس" عبر مخاوف زوجها عاصي، ومن خلال الفعل الروائي الحكائي الذي يتجلّى عبر رصد حركة "نشيد" في الحواجز وذكرياتها عنها؛ قد كانت فكرة عبور الحاجز توتّر أعصابها، لأنّ هؤلاء المحتلين "يقفون هنا شوكة في الطريق الذي يتوسط أرضاً فلسطينية كاملة"، ص74.
لقد جهّزت "نشيد" نفسها منذ الصباح، فاحتذت صندلاً رياضياً، وحملت شنطة كتف خفيفة، وقارورة ماء، وقماشة تضعها على أنفها؛ لاتقاء الغبار الذي تثيره الجرافات الإسرائيلية، ولم تنسَ "بصلة صغيرة تحشرها في جيبها؛ لزوم التغلّب على الغاز السام الذي  يصيبها بحساسية عندما يطلقونه"، ص237.
وأمّا ما يجعلها تشعر بالفزع فهو معرفتها أنها ستقف "وسط ازدحام المئات أو الآلاف من الأشخاص على الحاجز الوحيد الذي لا يسمح للفلسطينيين بدخول القدس إلا منه، فهذا ينكش أوجاعها بالمعنى الجسدي ويجعل أعصابها مثل كرة من الشعر تقف في حلقها"، ص67، وسيكون عليها، مثل كل الفلسطينيين الذاهبين إلى القدس من جهة قلنديا، أن تتحمّل صراخ المجندين والمجندات، وسخريتهم، وأن تعبر الدواليب المعدنية الضخمة: "تعبر أولاً بين دواليب معدنية ضخمة توشك على هرس جسدها، لشدة ضيق العوارض المعدنية الأفقية فيه"، ص72. لذلك كان من الطبيعي أن تشعر بالاضطراب، وأن "تظل مضطربة إلى أن تقطع الحاجز دون كوارث، قد يخترعها واحد من الجنود المراقبين وراء حاجز زجاجي، إن أطلق جسمها الصفير، لأي سبب، وهي تجتاز البوابة الإلكترونية"، ص238؛ ذلك أنّ جنود الاحتلال يتفننون في إبراز براعتهم في إذلال الفلسطينيين، وفي إهدار كرامتهم، والمس بإنسانيتهم، إلى حدّ يثير حفيظتهم، كما حدث مع "نشيد" ذات مرة، حين "طالبتها مجندة يوماً بأن تفك الأزرار، وتفتح قميصها، فضجرت من هذا، وابتدأت تشلح كل ما عليها، وهي تقول: سأشلح جسدي نفسه"، ص240.
لا بدّ إذا من اجتياز العوارض الحديدية/ "المعاطات"، التي أطلق عليها الفلسطينيون هذا الاسم تشبيهاً لها بمعاطات الدجاج، التي تحقن العابرين بمشاعر طارئة تخدش إنسانيتهم وتآلفهم، وتخلق لديهم هواجس مؤقتة تعطي قيمة كبرى للأنانية والصمت والخوف:
"الوقوف صفاً صفاً حيث الناس منضغطون إى حد التلاصق المزعج، وحيث النيات الخفية تجعل كل واحد منهم يحلم بأن يمرّ أسرع من غيره، فتجعل الأنانية متواشجة مع الخوف، مسيطرة على الجميع، فيتزاحمون حين يقعون تحت طائلة القهر الصامت"، ص67.
ولم يقتصر ظلم الاحتلال على البشر، بل جاوزهم إلى الحجر والشجر، ويعرف الجميع ما يجري من عقاب جماعي يستهدف هدم آلاف البيوت في كل مكان من الأرض المحتلة، وتعرض الكاتبة لنموذجين من نماذج ذلك الظلم، عبر الحديث عن بيوت بعض أقارب "لميس" زوجة "عاصي" في القدس القديمة؛ إذ أوشكت تلك البيوت "على الهبوط على رؤوس ساكنيها؛ بسبب أعمال الحفر المتواصلة التي تقوم بها سلطات الاحتلال تحتها"، ص203، بينما أشار "عاصي" إلى "شاحنات عملاقة تحمل قطع الأنقاض وبقايا مواد البناء الخارجة من المستوطنات، وترميها على أودية فلسطينية، فوق أشجار الزيتون المعمّرة"، ص200.
وعلى الرغم من كل أشكال القهر الذي عانى منه المجتمع الفلسطيني، فقد حرصت ليانة على أن تصبغ واقعيتها الانتقادية بمسحة تفاؤل تقرّبها من النص الواقعي الاشتراكي، وتترك للفلسطينيين صناعة انتصاراتهم الصغيرة، فقد انتصرت "نشيد" على الحصار؛ إذ كانت من خلال الكاميرا "توسّع من العالم الذي ضاق كثيراً بفعل السجن المستمرّ"، ص94، واستطاعت "لميس" العبور نحو القدس يومياً، رغم الحواجز المذلّة؛ لتؤكد على حقها في المكان، وتمكّن "عاصي" "أن يقنع الجارة المسنّة مالكة المنزل بأن توقف مشروع قطع شجرة اللوز التي تطلّ على شبّاك غرفة نومه"، ص159، بما لذلك من دلالات تعلق بالنماء، إلى درجة أنه سمّى مفكّرته "شجرة اللوز"، ض162، كما تمكّنت "بيسان" من اجتياز الحصار المفروض على "وائل" في غزة، عبر كتابة أغنيات الراب، حتى يلحنها "وائل"، وتكون أنشودة الانتصار الرمزي لهما، "فهما ينسجان أغنية جديدة للفرقة التي أسسها "وائل" هناك"، ص128، وها هي ذي تفكّر في كتابة أغنية عن الحواجز، بعد أن كتبت أغنية عنوانها "كله تمام" وأرسلتها إلى "وائل"، ومنها:
"بيعدّوا فينا كل ليلة
وكلّ صبح
أحسن ما نِطوَل (سانتي)
ونشوف الفجر على السطح"، ص218.
لقد طرحت الرواية مجموعة من القضايا التي كبّلت الإنسان الفلسطيني، ووقفت في طريق كالفساد الإداري واضطهاد المرأة، إضافة إلى العذابات التي عاني منها على يد الاحتلال، واقتربت من موضوعات شائكة من مثل الهوة التي نشأت بين المقيمين والعائدين، وهو موضوع سنعود إليه عند تحليل شخصيات هذه الرواية.

 

تعليق عبر الفيس بوك