محمد بن رضا اللواتي
"أصدُقني القول يا إبليس، لأي أمر أيقظتني؟"
إنه "جلال الدين الرومي"، الذي يلقبه محبوه بـ"مولانا"، تمرَّس في صب النكات العميقة لمعارف الكتاب المجيد في قوالب من النثر اللطيف، وها هو ذا يريد أن يصور لنا دور "إبليس" تجاه أعمالنا السيئة التي بالعادة نرميها على عاتقه؛ بحيث تستبين لقارئه الحكمة من وجود متمرد مثله على صراط النجاة يحيد الناس عنه، فإذا به يبتكر حوارا بين "إبليس" وبين "ملكا من الملوك"، الذي وجده فجأة ذات فجر في غرفة نومه بالقصر يوقظه للصلاة!
الملك "صاحب القصر" يُتابع باهتمام أخبار الثلاثة آلاف رجل الذين خرجوا لتأديب معارضيه في كل من مكة والمدينة وصنعاء، ولكن جماعة من المؤرخين كالثقفي والمسعودي واليعقوبي والطبري وابن عبد البر، يروون أن أولئك الجنود لم يكتفوا بتأديب المعارضين، بل نهبوا المنازل وأحرقوا الدور، أما قائد الحملة، فقد ذبح بمدية في يده الطفل عبد الرحمن بن عبيدالله بن العباس، وأخاه "قثم" الصغير كذلك، وأمهما أم حكيم بنت القارظ تنظر إليهما مذهولة فاختل توازنها العقلي!
ثم سُبيت النساء، وكان ذلك الحدث الأكثر شناعة في تلك الفترة من عام 39 للهجرة، إذ كان لأول مرة في تاريخ الاسلام أن تُسبى مسلمة وتُباع في الأسواق!
أيقظه "إبليس" وهو يصيح "عجلوا بالطاعات قبل الفوت"، مما أدى "بصاحب القصر" أن يُصاب بالذهول؛ إذ كيف لقاطع طريق الآخرة أن يوقظه للصلاة؟! لذلك أخذ يلح عليه أن يخبره عن حقيقة مقصده من إيقاظه له، فما كان من إبليس إلا وبدأ يعرض عليه أسبابه، عسى أن يقتنع بها، فأخبره بأنه عندما كان يسكن في الأعالي قرب العرش، وقبل أن يصدر من جانب العزة اللامتناهية أمر بالسجود، كان قلبه قد شغف بصاحب العرش، وهو، متأثر بذلك العشق الأزلي جاء يدعوه للصلاة!
وإلا، فهل حسب "صاحب القصر" أن حُب الوطن الحقيقي قد غادر قلب "إبليس"؟ هيهات! فلقد شربه مع لبن الرضاع.
لم يصدق "صاحب القصر" الكلام الذي قاله "إبليس"، فهذا الطريد من الرحمة، ألا يزال يحن إلى الحب القديم؟ يعود "إبليس" ويكرر أمامه الحجج، فتارة يقول له بأن كرم ذي العرش لا يقبل النسيان، فلقد كان هو الذي أباح له التجوال في سرادق العظمة.
وإن كان قد طرده منها، لكنه ما أغلق باب الكرم، إذ لم يخلقنا لأجل أن يتربح علينا، بل لكي نتربح عليه!
سد صاحب القصر أذنيه رافضا الإضغاء إلى حجج "إبليس" المزيفة، فمتى أصبح اللص حارسا للخزنة؟
يكتب الرومي عن لسان صاحب القصر أن: "من مكرك قوم نوح في نواح، وقلوبهم شواء، وصدورهم ممزقة إربا، وجعلت عاقبة قوم عاد أدراج الرياح. إنه أنت لا غير من جعل من أبي لهب خسيسا، ومن أبي الحكم أبا جهل. أصدقني القول لم أيقظتني للصلاة"؟
تيقَّن "إبليس" أن الرجل ليس بالذي يصدق هذه الحجة، فابتكر معذرة مختلفة هذه المرة، قال فيها بأنه في واقع الأمر ليس إلا "صيرفي"! نعم "صيرفي، مهمته أن يكشف عن العناصر النيرة اللامعة من الرديئة المظلمة"؛ فحينما يستولد الذئب من الغزال جروا، فإن ثمة شكا يكون في ذئبيته وغزاليته. إنه من يضع أمامه العظام والعشب، فإن جلس ولعق العظمة فهو كلب، وإن طلب العشب فهو غزال".
"هذه مهمتي يا "صاحب القصر"! لست أنا من يجعل الأخيار أشرارا، إنني لستُ إلهًا، لا يمكنني خلق الحُسن والقُبح، إنني مجرد مرآة تكشف ما في الوجوه من قبح أو جمال. لقد أحرق هندي ذات يوم مرآته قائلا بأنها تُبدي المرء أسود الوجه، لكن المرآة هتفت في وجهه صارخة أن ليس الذنب ذنبي، إنني كاشفة فحسب عما هو في الخارج. هكذا أنا يا "صاحب القصر"، الرب جعلني عاكسا صادقا للغاية".
ولكن، متى كانت "الأبالسة" تُصدَّق؟! لذلك لم يصدقه "صاحب القصر" بتاتا.
على الأرجح أن جلال الدين قد صاغ هذا الدور "لإبليس" مستندا إلى الآية 22 من سورة إبراهيم، التي نقلت لنا آخر ما سيقوله الشيطان؛ إثباتا لبراءته، في مواجهة أولئك الذين يتهمونه بأنه سبب تعاستهم، هذا قبل أن يبتلعه الصمت الأبدي. يقول تعالى: "وقال الشيطان لما قُضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم".
إذن "إبليس" لم يأمر أحدًا، بل قصارى ما أتى به أن دعا فحسب! والذي بلغوا قعر التعاسة لبوا النداء.. هذا كل شيء.
ولكن وللمرة الثالثة، لم يُصدق "صاحب القصر" حرفا مما قاله "الشيطان"، وإنما أعاد سؤاله عليه قائلا: "أصدقني القول بلا مكر هذه المرة... لم أيقظتني"؟
تُرَى، أيُمكِننا استنتاج الإجابة عن هذا السؤال المطروح على "إبليس"؟