علي بن مسعود المعشني
في كل مجتمعات العالم بلا استثناء توجد انقسامات سطحية أو أفقية بتعبير آخر وهي مكتسبة واختيارية ووفق المستجدات وأطوار المجتمع والدولة، كالانتماء إلى حزب أو حرفة أو أيديولوجيا، وانقسامات عمودية وهي انقسامات موروثة لا خيار لنا بها كونها عميقة وضاربة في جذور المجتمع ومكوناته وتاريخه، وهي الانقسامات التي تحدث على أساس الهويات الفرعية التي ورثها الناس من آبائهم، ولا إرادة لهم فيها كالقبيلة والطائفة والعرق والدين والمذهب وماعلى شاكلة ذلك.
ونحن في الأقطار العربية نعيش كل تفاصيل الانقسامين السطحي (الأفقي) والعمودي كباقي البشر، ولكن مشكلتنا مع هذه الحالات "الطبيعية" أعظم وأشد فتكًا مما عند الآخرين، بسبب غياب الوعي والمسؤولية أولًا وغياب ثقافة آداب الخلاف والاختلاف والتنوع تدريجيًا من حياتنا، يضاف عليهما غياب الشعور بالوطن وأهمية حضور العقائد والثوابت وتقديمها على القناعات المتحولة وتدني منسوب الرضا عن الوطن نتيجة سياسات خاطئة، وكوننا هدف دائم للغرب.
جميع الأقطار العربية التي مرَّ بها الربيع المشؤوم تسلل فيها وتدرج من مطالب معيشية ثم ركب موجة الانقسامات السطحية في مرحلة ثانية ثم تحولت تلك المظاهر إلى تناحر خطير على مكونات الانقسامات العمودية من طائفية ومذهبية وعرقية ودينية وفكرية بل وحتى مناطقية بصور محيرة ومرعبة، رغم التجانس الموروث من قرون خلت ورغم التداخل الحاد أحيانًا بين نسيج بعض المجتمعات إلى درجة الانصهار كالحالة العراقية/السورية، ورغم حضور الطيف الواحد في مُجتمعات أخرى كالحالة الليبية، الأمر الذي يُنذر ببساطة بتكرار تلك السيناريوهات وبضمان نجاحها في جغرافيات عربية أخرى وفي أوساط مُجتمعات أخرى مازالت تعيش "شعارات" التعايش والتي لم تُختبر ذات يوم ولم يُسلط عليها العداء وتتوفر بها مناخات التفتيت وفاعلية التشظي عبر تأجيج الانقسامات الطبيعية فيها.
لاشك أنَّ العبث بالهويات الفرعية للمُجتمعات وتوظيفها بخبث للإجهاز على اللحمة الوطنية والهويات الجامعة الكبرى لن يسلم من آثارها أي مجتمع على وجه الأرض ولكن سيتباين منسوب أثرها من مجتمع لآخر بحسب حضور الوعي والمكاسب وأدوات التحصين لمواجهة هكذا حالات ومعدل منسوب الرضا عن الوطن. بعد احتلال العراق والتنكيل به عام 2003م، من قبل الأمريكان والبريطانيين كان رهانهم على إحداث فتنة وانقسامات حادة في المُجتمع العراقي بشقيها السطحي والعمودي، حيث رفع الغزاة شعار تحقيق الديمقراطية والحرية والعدالة للشعب العراقي ثم تمَّ العبث بالمذهبية والطائفية والعرقية والدينية واستخدامها كأدوات حرب فاعلة لتمزيق الدولة ولإجهاد المُجتمع، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل تمَّ ابتكار عوامل انقسامات سطحية جديدة لتصبح عمودية لاحقًا كتنصيب الحاقدين والدخلاء وحملة الجنسيات الأجنبية والمنبوذين في المناصب الكبرى لعراق ما بعد الاحتلال وتمكينهم في مفاصل الدولة ليكونوا رديفاً للاحتلال وسياسات التنكيل وتفتيت الدولة وللتجاسر على قيم وموروث المُجتمع إلى درجة التشفي بحكم المصلحة واستغلال الظرف التاريخي. فأصبح لدى المُجتمع العراقي ثأرات دفينة لا تُحصى على عناوين موروث عمودي وسطحي تحول فيما بعد بفعل عمقه إلى انقسامات عمودية جديدة أضيفت على رصيده السابق.
وفي سوريا صُمم الربيع على قواعد الانقسامات العمودية العميقة للمجتمع السوري كرفع شعار(العلوية ع التابوت والنصارى ع بيروت) ثم استحدثت عناصر جديدة من تفاصيل الأزمة ومراحلها وأطوارها لتتحول من انقسامات سطحية إلى انقسامات عمودية عميقة لعل أقربها هو الولاء للنظام أو الوطن أو لما سُميت بالثورة والمعارضة في أدبيات الربيع العبري.
أما في ليبيا فقد كان الظاهر للمُتابع الحصيف أن تمرير أي من الانقسامات السطحية أو العمودية وتوظيف أي منهما كأداة احتراب داخلية تُجهز على الدولة وتتسبب في تشظي المُجتمع وفق وصفة الربيع بعيدة إلى حد ما، على اعتبار أن المجتمع الليبي مجتمع متجانس إلى حد كبير، فجميعهم مسلمون وأتباع المذهب المالكي، وغالبيتهم العظمى عرب، يضاف عليها التداخل القبلي والمناطقي الكبيرين، أما الانقسام السطحي فقد ظنَّ الكثيرون أنَّ مشروع ليبيا الغد والذي سعى به الدكتور سيف الإسلام معمر القذافي قد أتى أكُله وأثمر في الإصلاح وتجاوز الولاءات والثأرات بين الدولة والإسلام السياسي وطيف المعارضة وطي صفحات المواجهات إلى غير رجعة. لهذا كان سيناريو ليبيا هو الانطلاق من الانقسامات السطحية وتعميقها لتصبح عمودية يصعب الانفكاك من آثارها، وذلك عبر تمكين حركات الإسلام السياسي ورموز ما تُسمى بالمعارضة الليبية في الخارج لتتشفى من الدولة والمجتمع معًا إلى درجة الإجهاد والتشظي التام. ففي ليبيا بدأت المطالب معيشية ودستورية وانتهت بدولة ميليشيات تباركها كل القوى الغربية والعربية التي تسببت في الإجهاز على الدولة الليبية كل وفق أجندته.
من يقرأ المظاهر والظواهر والتحولات السياسية والاجتماعية في الوطن العربي بعين فاحصة لابد أن تستوقفه جملة من الأعراض والإفرازات الغريبة والمستولدة قسرًا من رحم الربيع، ومنها ارتفاع منسوب التجاسر على هيبة الدولة الوطنية، والجهر بالهويات الفرعية: القبلية والمناطقية والعرقية واللغوية، وشيوع الجرائم النوعية المُشينة وبصور ممنهجة في السجون والمعتقلات وطرق القتل والتمثيل والتي يصعب إن لم نقل يستحيل تجاوزها أو نسيانها في العقل الجمعي العربي دون ثأرات أو أحقاد بين أطياف المُجتمع الواحد، خاصة الجرائم المتعلقة بالشرف واستباحة الأعراض والتي رأينا منها وسمعنا بها في كل من العراق وسوريا وليبيا.
الساحة في الوطن العربي اليوم مليئة بالشحناء والبغضاء وثقافة الثأر والكراهية والتربص والكيدية نتيجة تعاظم الانقسامات المجتمعية الموروث منها والمستولد من رحم الربيع، والمتابع لحالة الانقسام الشديد في الوطن العربي الكبير لتوصيف حالة وفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي يشعر بأنَّ المسألة لم تعد تتوقف على ولاء حزبي من عدمه أو تعاطف بل تطاولت الأمور وأصبحت من لزوميات الشحن السياسي والطائفي ومن ظواهر الانقسام العمودي الحاد، وحالة إحماء وتهيئة مناخ واستشعار لحالة سيناريو قادم أسوأ وأمضى من الربيع وفصوله، حيث بينت حالات التعاطي مع وفاة الرئيس مرسي وتوقيتها حجم الخلايا النائمة بيننا والطوابير المتعاطفة مع الإخوان ومدى وعمق تخندق الخطاب الإخواني وتجذره في عقول الكثير من أبناء اليوم بوعي وبلا وعي منهم علمًا بأنَّ وفاة المرشد العام للإخوان محمد مهدي عاكف في السجن مرَّت مرور الكرام وبدون أي ضجيج أو طقوس أو مراسم !!. مشكلتنا في الوطن العربي تكمن في أن صُناع الربيع ورعاته ممن نجحوا في التلاعب بانقساماتنا السطحية والعمودية وتوظيفها كأدوات حرب لهم وبالوكالة عنهم قد أحسنوا توظيف سلاحهم الأخطر والأمضى وهو سلاح الإعلام الاجتماعي، هذا الإعلام السحري الذي استطاع تجاوز الإعلام التقليدي بسنوات ضوئية في سرعته وتأثيره وسعة انتشاره حتى في البلدان المُتقدمة، وانتزع نسبة متابعين تفوق الـ 60% حول العالم رغم أنَّ الدراسات المعمقة أثبتت أنَّ أكثر من 60% من الأخبار المتداولة عبر وسائل التَّواصل الاجتماعي حول العالم كاذبة ومحرفة، ولكنه من أعظم الوسائل اليوم لإحداث التأثير العكسي وحالة حصار العقل والعبث بالوعي بفعل تقنيات وبرامج العبث بالصوت والصورة وتحديثها وسرعة انتشارها دون تمعن أو تفكر أو تدبر من المتلقي.
الخلاصة أنَّ المجتمعات المستهدفة في التناحر والتفتيت والتشظي من قبل الخصوم عبر موروثها ومكونها الطبيعي المُتمثل في الانقسامات السطحية والعمودية ستختلق لها وسائل وأدوات تغيب العقل وتمرر المخطط بلا وعي حتى تتعاظم الجراح والثأرات والأحقاد بين أبناء الوطن الواحد فيما يشبه حالة الغيبوبة الجماعية والمُؤثرات العقلية، وبالتالي يستعصي العلاج والتوافق وترميم الرتق بسهولة وتجاوز الجراح بل سيترتب على ذلك تعاظم منسوب الجراح والثأرات المؤجلة والمُرحلة من جيل إلى جيل، وأول مظاهر هذه القنابل الموقوتة وترحيل الثأرات هي مشروعات رنانة وألحن في الأسماع والعواطف كالمُحاصصة والفيدرالية والعزل السياسي والعدالة الانتقالية التي تساوي بين الجلاد والضحية بزعم طي صفحات الخلاف والتطلع نحو المُستقبل فهي أشبه بعملية خياطة الجرح دون تنظيف أو تعقيم.
لوعدنا مثلاً إلى قراءة عميقة للحروب الأهلية في لبنان كمثال، سنجد أنَّ مسببها الرئيس هو الطائفية، ولكن لو أفترضنا – لاسمح الله – اندلاع حرب أهلية جديدة بلبنان اليوم فلن يكون العنوان الطائفية وحدها بل سيفتح ملف اتفاق الطائف بأكمله وستطرح قضايا انقسامات سطحية جديدة تعاظمت لتصبح عمودية كالموقف من المقاومة وحزب الله ومراجعة موقف كل فصيل من الأزمة السورية والبحث عن إجابة لسؤال: هل لبنان إقليم بداخل كيان عربي أم هو كيان مستقل بذاته ويحمل كل أعراض الدولة القُطرية العربية المعُاصرة!؟. نموذج لبنان هو للدلالة على حجم تعاظم الانقسامات السطحية والعمودية في المجتمعات وتدحرجها وتشكلها ككرة الثلج على الدوام، وكمثال على عودة المجتمعات إلى آخر الثأرات لتنتقم وتتشفى لثأرات أقدم وأعمق وهنا مكمن الخطورة.
لو تناولنا نموذجا عربيا آخر كجنوب اليمن والذي يتشكل من طيف ديني ومذهبي واحد (الشافعي) حيث عرف الجنوب احترابات داخلية مبنية على انقسامات عمودية موروثة وهي القبلية والمناطقية (يافع / ضالع/أبين/ شبوة) عامي 78 بمقتل الرئيس سالمين ويناير 1986م مذبحة المكتب السياسي للحزب الاشتراكي والتي في جزء مهم منها الثأر لدم سالمين، واليوم يتشظى أبناء الجنوب حول ذلك الميراث مجددًا رغم أنَّ العنوان الأبرز والشعار هو الحراك الجنوبي ومصلحة أبناء الجنوب!! . لايمكن لأي لبناني أو عراقي أو سوري أن يستعيد شيئاً من القتل على الهوية الطائفية أو الدينية أو المذهبية دون أن يشعر بالانكسار والحزن العميق والتفكر والتساؤل العميقين لما حدث وبما حدث رغم قرون من التعايش والتآخي، ولا يمكن لليبي اليوم ولا اليمني الجنوبي أن يستوعبا ما جرى من قتل على المناطقية والقبلية لمجتمعات تتشكل من طيف واحد إلى حد التطابق، ولكنها الحروب الشيطانية القذرة التي تختطف العقول وتغيب العقلاء وتزيف الحقائق وتلوي المنطق وتلغي المشاعر والإنسانية معًا في لحظة غباء تاريخي عميق وبلادة سياسية غير مبررة ولا مفهومة. إنها بالفعل مهزلة العقل البشري القادر على التحول من النقيض إلى النقيض في ظرف ما وأن يبرر كل غي له بمقتضيات المصلحة والخيرية والنفع والصواب !! وقبل الختام يمكن القول بأنَّ تأجيج الانقسامات السطحية والعمودية في المجتمعات ليس امتهانا من الخصوم والأعداء دائمًا بل قد يأتي بفعل داخلي كذلك، حيث لا يُمكن تبرئة النظام الرسمي العربي من المسؤولية في خلق جملة من الانقسامات السطحية والعمودية في مجتمعاته ومن العدم أحيانًا بفعل السياسات الخاطئة والتي تخرج عن دائرة السيطرة والرهان أحيانًا وتُدخل الأوطان في أنفاق مظلمة، كالتلاعب بالأضداد وضربها ببعض لمصلحة النظام وليس الوطن، كما لجأ عدد من النُّظم السياسية العربية إلى ضرب حركات الإسلام السياسي باليسار أو التيار القومي والعكس ومن ثم تغول المنتصر حتى أصبح عبئاً على الوطن برمته، رغم أن الدساتير في دولة الاستقلال العربي تضع كل من العروبة والإسلام ضمن مكونات هوية الدولة وتجرم قيام أحزاب أو تنظيمات سياسية على أسس قومية أو دينية أو مناطقية، إلا أن النظام الرسمي لم يحافظ على الدساتير فسمح أو غض الطرف عن تلك المكونات السياسية بالعمل بصورة أو بأخرى في تحد وخرق واضح لمواد الدستور، كما أن النظام الرسمي العربي لم يعتنِ بثابتي العروبة والإسلام كما يُفترض وينبغي ليقطع الطريق على المزايدين والمتاجرين بهما، وهنا وجد القوميون والإسلاميون ما يُشبه السوق الموازي في التجارة فروجوا لأفكارهم بلحون دغدغت مشاعر الشعوب في ظل الغياب التام للخطاب أو الفعل الرسمي الفاعل لسحب البساط عن تلك التنظيمات وجعل أفكارها من صميم هوية الدولة وشأنها، ونتيجة لهذا التناقض والتضاد أصبحت كل من العروبة والإسلام في عداد الانقسامات العمودية العميقة للمجتمعات العربية المعاصرة بفعل الإهمال والتجاهل الرسمي والسياسات الخاطئة ولم لا، والعروبة والإسلام أصبحا اليوم موضع شبهة وتهمة لمن يحملهما ويطالب بهما كمنظومات حضارية جامعة للأمة. يضاف إلى هذا أنَّ السياسات والرهانات الخاطئة في دولة الاستقلال العربي تسببت في تأجيج انقسامات عمودية خامدة في المجتمعات قبلية أو مناطقية كانت من المسلمات ومن أدوات السلم المجتمعي المتوارث بفعل إهمال تنموي أو تهميش إضافة إلى شيوع الفساد والبطالة وغلاء المعيشة واتساع الفجوات بين طبقات المُجتمع وتآكل الطبقة المتوسطة في عدد من المجتمعات العربية وتراجع تأثيرها الوازن إلى حد كبير. واليوم يدخل التطبيع مع الكيان الصهيوني على خارطة الانقسامات الاجتماعية السطحية والقابل للتحول سريعًا إلى انقسام عمودي لجسامته وتداعياته في الوجدان العربي وعلى السكينة والأمن في دولة الاستقلال العربي، فالتطبيع مع الصهاينة ليس سلاماً مع كيان سياسي شرعي وتسوية قضية نزاع عادلة بين طرفين مستحقين ومتكافئين بل السعي لتمكين المستحيل وجعله طبيعيًا على الأرض، وهذه الحالة الشاذة ستدفع بالمطبعين قسرًا إلى حماية أمن الكيان نهارًا جهارًا وعدم السماح بالنيل منه تلميحًا أو تصريحًا ومعنى هذا فتح جبهات احتراب مجانية داخلية بين النظام الرسمي العربي المطبع وشعوبه.
قبل اللقاء: قاد الإعلام بشقيه التقليدي والاجتماعي جهد معارك حروب الجيل الرابع، وسيقود الذكاء الاصطناعي جهد معارك حروب الجيل الخامس وعلى رأسها تقنية الزيف العميق.
وبالشكر تدوم النعم