جمال الكندي
التناقضات في التصريحات الأمريكية الأخيرة تجاه إيران بين المُهددة بضربها عسكرياً في حالة إقدامها على أي عمل استفزازي في المنطقة، وبين التي تدعو إلى الحوار مع الإيرانيين وترسل من أجل ذلك رسائل عبر الوسطاء المقبولين لدى الطرفين.
هذه الرسائل كانت تبعث إلى الإيرانيين والمنطقة تغلي لجر أمريكا وإيران إلى مواجهة عسكرية مدعومة من طرف ثالث يُحاول إيجاد بيئة نزاع بينهما مستغلاً الخطوط الحمراء التي وضعتها أمريكا لتكون القاعدة لأي عمل عسكري ضد إيران ولو كانت محدودةً على شاكلة استخدام الجيش السوري للسلاح الكيماوي، فالسيناريو يُراد له أن يتكرر في الحالة الإيرانية.
والفشل في استدراج أمريكا لخوض حرب ضد إيران أصاب أعداءها خاصةً الإسرائيليين بخيبة أمل كبيرةً، فبعد تفجير أربع ناقلات نفط في ميناء الفجيرة، وناقلتي نفط في بحر عُمان تبخرت الخطوط الحمراء الأمريكية وتعالت أصوات المسؤولين الأمريكان وعلى رأسهم الرئيس ترامب بعدم الرغبة في خوض حرب مع إيران، وأنها تريد عقد مفاوضات مباشرة، وبدون شروط معها، ولو رجعنا إلى حادثة ميناء الفجيرة وبحر عُمان، فإننا نُحللها وفق نظريتين: الأولى وهي وجود طرف ثالث وراء هذه التفجيرات والغرض واضح هو جر أمريكا لمواجهة عسكرية مع إيران. أما النظرية الأخرى فتعتمد على سياسة الغموض الإستراتيجي من قبل إيران، عن طريق إرسال رسائل عسكرية ذات طابع اقتصادي لتظهر مدى قدرتها على خلط الأوراق الاقتصادية والعسكرية في المنطقة، إما عن طريقها أو عن طريق حلفائها والقاعدة الإيرانية تقول "إذا لم يصل النفط والغاز الإيراني للأسواق المستوردة له فلا نفط ولا غاز سيخرج من المنطقة"، والغموض في ذلك يكمن في الإدانة والإنكار من قبلها وبقاء الأمر في خانة المجهول.
كلتا النظريتان لهما من يتبناهما، مما جعل الرئيس الأمريكي يُغير من خطوطه الحمراء ويجعلها خطاً واحداً فقط هو استهداف القواعد الأمريكية وقطعها البحرية والجوية، وطبعاً هذا الأمر أصاب أعداء إيران بانتكاسة كبيرةً بعد تفجيرات ميناء الفجيرة وبحر عُمان، بسبب ردة الفعل الأمريكية المسالمة والمهادنة التي كانت تدعو إلى الحوار حتى بعد الحادثتين. في المقابل، نرى الجانب الإيراني قد رسم خطاً أحمر واحداً فقط وهو التعدي على أراضيه.
حادثة إسقاط طائرة التجسس الأمريكية المسيرة "غلوبال هوك 4" التي انتهكت المجال الجوي الإيراني كانت الخط الأحمر الأخير الذي خطه ترامب لضرب إيران عسكرياً، ولكن ردود الفعل الأمريكية كانت متناقضة وتنم عن تخبط وعدم تصديق بأن هذه الطائرة المتطورة تسقطها الدفاعات الجوية الإيرانية، فحسب صحيفة "نيويورك تايمز" التي قالت "إن الولايات المتحدة كانت تُخطط لضرب مجموعة من الأهداف الإيرانية مثل بطاريات الرادار والصواريخ مساء الخميس ولكن الخطة توقفت فجأة في مرحلتها الأولى".
ماذا يعني ذلك؟ وهل هنالك رسائل وصلت لترامب تُحذر من عواقب أي استهداف لإيران؟ هنا نحن أمام أسباب ونتائج تراجع الرئيس ترامب عن ضرب إيران، ولو كانت حتى ضربة محدودة، فالأولى وهي الأسباب: التي كانت عبر هول المفاجأة لدى الأمريكيين بقدرة الدفاعات الإيرانية على رصد هذه الطائرة الفائقة التقنية من وقت تحركها إلى ساعة إسقاطها، والكشف عن أن طائرة أخرى ترافقها على متنها 35 شخصاً بالضبط ولم تستهدف، هذا الأمر ولد تساؤلات لدى القادة العسكريين الأمريكيين حول مدى تطور القدرات العسكرية الإيرانية، وما تخفيه من مفاجآت أخرى قد تكون أليمة جداً للأمريكان في حالة اندلاع مواجهة عسكرية بينهما، فكانت هذه من أهم أسباب الفرملة الترامبية؟!
أما النتائج فقد أوصلها من أقنع ترامب بالتراجع عن الضربة وأوضح له النتائج المترتبة على ضرب إيران، وبصرف النظر عن الشخص أو الجهة التي نصحت الرئيس ترامب بالتراجع عن الضربة، فإنها بينت له جدية إيران في ضرب القواعد الأمريكية في المنطقة، وأن المشهد السياسي الأمريكي سيتغير، وستكون فرص نجاحه للولاية الثانية صعبة جداً؛ لأنه وعد الناخب الأمريكي بألا حروب جديدة لأمريكا في المنطقة خلال ولايته.
إنَّ الحرب ضد إيران إذا وقعت لابد لنجاحها أن تغير المعادلة السياسية والعسكرية بالنسبة للإيرانيين، ولتغيير هذه المعادلة لابد من حرب برية تخوضها أمريكا ضد إيران ويحشد لها أكثر من 120 ألف جندي، وتفتح لها الحدود الباكستانية والأفغانية، وهذا الأمر صعب التحقيق، خاصة في ولاية ترامب الذي وعد الأمريكان بعدم تكرار أخطاء بوش الأب والابن؛ لذلك نرى هذا التخبط من قبله في كيفية الرد على إيران، والرغبة في التفاهم وإيجاد مخرج يحفظ هيبة أمريكا.
إنَّ ما بعد إسقاط طائرة التجسس الأمريكية لن يكون كما قبله، وربما يكون هذا الحادث من أهم الأسباب التي ستُرجع أمريكا إلى طاولة التفاوض بالشروط الإيرانية المقبولة لدى الأمريكان، وهي من صميم ما اتفقا عليه في عهد إدارة أوباما، وهذا ما ستُحاول الوصول إليه الدول المعنية بأمن المنطقة، وتطلب من أمريكا وإيران ضبط النفس والعودة إلى طاولة التفاوض.
نحن هنا أمام حقيقة ثابتة بأن الكل لا يريد الحرب، ويسعى إلى التهدئة خاصةً الأمريكان، وربما هذه الحادثة ستُعيد رسم خارطة المنطقة من جديد، ومن بوابتها ستحل قضايا عدة خلقتها الأحادية الأمريكية بقرار الحرب مع حلفائها ضد سوريا واليمن.
القادم من الأيام سوف يثبت مدى قناعة أمريكا بعدم جدوى الحرب مع إيران، وأنَّ الحرب معها تعني اشتعال المنطقة عسكرياً واقتصادياً، ورسالة إسقاط الطائرة الأمريكية وصلت، ومفادها عدم اللعب مع الخطوط الحمراء للدول ذات السيادة الحقيقة، وأنَّ سبب هذا التوتر هو خروج الإدارة الأمريكية الحالية من الاتفاق النووي مع إيران وحيدة من دون الشريك الأوروبي، وهذا ما جعل ترامب يغرد خارج سرب هذا الاتفاق، ومخالفاً لخصومه السياسيين في الحزب الديمقراطي، لذلك يحمله الحزب كل التبعات العسكرية والاقتصادية من وراء هذا الخروج.