متقشفون إلا في الخسائر

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

هناك أشياء غريبة لا يمكن أن تحدث في أي بلد في العالم إلا بلدنا؛ ربما لأننا دائما نشعر أننا متميزون عن الآخرين، وألا أحد يشبهنا في سماتنا النفسية، وهذا قادنا إلى التمسّك بما نتميّز به حتى لو كان شيئا سلبيا مثل تقبل "الخسارة" بروح وتسامح كبير في جوانب اقتصادية على قدر كبير من الأهمية خاصة في الظروف الاقتصادية الحالية التي أثقلت كاهل الناس وقادت إلى تقشف كبير إلا في الخسائر التي تتزايد وتتسع ولا أحد ينادي بالتقشف فيها.

بل إنّ المضحك المبكي أن يعمل بعض المسؤولين على تصوير الخسائر بأنّها أرباح، وأنّ الخسائر تجري وفق خطة وليست بشكل عشوائي، حيث أعلنت إحدى الشركات الكبرى أكثر من مرة موعد تغييره كل مرة لتحقيق التعادل بين الخسائر والأرباح، وكلما شعرنا أننا نقترب منه يتم تغييره بإعلان خسائر أكثر. أليس هذا مبكيا في الوقت الذي تضع فيها الدول من خلال الشركات الكبرى التي تمتلكها خطط للأرباح أن توضع لدينا خطط للخسائر؟ أي قيمة للمال والثروات إن كانت ستوجه إلى شركة أو استثمار، ونحن نعرف أننا لن نجني إلا الخسائر، يخسر الوطن ومواطنوه ويستمر المسؤولون عن إدارة هذه الشركات وفق نفس النهج دون أي خطة ناجحة للنهوض والخروج من حالة الخسارة إلى حالة الربح؟

أطرح هذا الموضوع هذا الأسبوع في ضوء النقاشات التي كانت في الشبكات خلال الأسبوع المثال حول حالة واحدة من حالات الخسائر التي منينا بها اقتصاديا في العقود الأخيرة، وأعرف أننا ألفنا في البلد تكرار كلمة "الخسارة" في شركاتنا والتي تحظى بالدعم الحكومي، وألفنا "الخسارة" في استثماراتنا الخارجية؛ ولم نعد ننشد أي نجاح إلا تقليل أرقام الخسائر، ولكننا نحاول أن ندق على "الجدار فإمّا فتحنا ثغرة للنور"- على حد تعبير الشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح- يمكن أن تتيح لنا أن نرى ضوءا مختلفا في آخر النفق يتيح لنا رؤية المؤشر وهو يتجه إلى أعلى بدلا من الصورة المكسرة في أذهاننا له وهو باستمرار نازل إلى أسفل، نحاول أن نؤكد على أنّ ما يجري غير معقول، فلماذا يخسر كل شيء تضع الحكومة فيه "يدها"؛ هل الأمر يعود إلى قصور في الدراسة والمتابعة ونحن لا نسمع في تصريحات شخوصها في مختلف المواضيع إلا التأكيد على الدراسة المستفيضة ولذا تأخرت كثير من المشاريع بسبب هذه الدراسات والتفكير المتعمق فيها؟ هل يعود الأمر إلى ضعف رؤية القيادات الموضوعة على هذه الشركات أو التي تدير هذه الاستثمارات والذي يقودها إلى اتخاذ قرارات خاطئة وغير مناسبة مقارنة بما تتخذه قيادات شركات أخرى في المنطقة نجحت في تحقيق نجاحات جعلتها تتحدث عن الأرباح والتوسع بدلا من تسليط الضوء على الخسائر؟ هل يعود الأمر إلى غياب الحوكمة الحكومية التي لا توفر محاسبة صارمة في حالات الخسائر ولا تفصح عن الأسباب الحقيقية، ولا تعمل على التحقيق الجاد في مثل هذه الأمور المصيرية لنهضة البلد الاقتصادية؟ مما وفر فرصة للتساهل واللامبالاة بأي خسائر تحدث طالما أنّ قيادات هذه الملفات يستقطعون ملايين كرواتب من الدعم الذي تقدمه الحكومة، والذي تقتصه من احتياجات المواطنين الذين ينشدون ترقيات ووظائف، وتحسين أمور معيشية، وتقليصا في رسوم الخدمات التي ارتفعت من أجل توفير أموال للخسائر التي تحدث هنا وهناك.

لن أعطي أمثلة على هذه الخسائر التي تحدث في أكثر من صعيد؛ فالجميع يعرفها، والتصريحات تملأ الجرائد حولها، وهي حاضرة على ألسن كثير من المسؤولين؛ فنحن لم نعد نخجل من ترديد كلمة "الخسارة" فهي أصبحت جزءا من قاموسنا الاقتصادي، ولا أعرف متى سوف نتمكن من حذفها واستبدالها بكلمة "الأرباح"؛ ولكن ما يقلقني هو هذا الهدوء الذي تواجه به هذه الخسائر، وهذا الاستلام للواقع وكأنّه واقع لا يمكن الخلاص منه؛ وهذا التقبل الذهني لهذه الخسائر وكأنّها شيء طبيعي سوي في حياتنا الاقتصادية، وكأنّ ما يُساق من مبررات طوال هذه السنوات هو حقائق لا يجوز التشكيك فيها؛ ولا يجب التحقيق فيها؛ فالأموال التي تخسر بالملايين هي في نظرهم استثمار يمكن أن يقود إلى أرباح بعد عقود طويلة.

هل هذا هو التعافي الاقتصادي الذي ننشده منذ أن بدأت خطط التقشف الاقتصادي؟ ولما لم ننجح في تحقيق تقشف في الخسائر رغما تفاقمها؟ ورغم ألا شيء يلوح في الأفق إلا المبررات نفسها التي يسوقها كل مسؤول في هذه المجال، فالكل يدّعي أنّ لديه بعد نظر، وبعد مرور السنوات وتزايد الخسائر يظهر قصر النظر، وتذهب الملايين، ويذهب المسؤول، وتبقى الخسائر تُرحل من مسؤول لآخر والكل يدعي أنّه ليس سببا فيها إنّما من كان قبله؛ حيث تنعدم القدرة على مواجهة المشكلات وإيجاد حلول لها، ولذا يكون النهج الوحيد المتوفر هو التعايش مع كل ذلك، ونحن نموذج في المنطقة في التعايش ولكن لكل تعايش ثمن وثمن التعايش مع الخسائر الاقتصادية فادح جدا، إن لم يكن هناك موقف وردة فعل وإجراء وطني، متى سيكون ذلك ومن سيقوم له؟ أسئلة مؤجلة، فهل سوف تحسمها الأيام وتعاظم الخسائر؟

الأكثر قراءة