المتلونون

 

 

عائشة بنت أحمد سويدان البلوشية

 

 

"لا خير في ود امرئ مُتلون.. إذا الريح مالت مال حيث تميل.

ما أكثر الأصحاب حين تعدهم.. ولكنهم في النائبات قليل".

دائمًا ما يكسو الإمام الشافعي -رحمه الله- أبيات قصائده بالحكمة، لذا نجدها حاضرة قيد الاستشهاد في المواقف اليومية؛ تمُر بنا الأيام ومعها يمُر الكثير من البشر في تعاملاتنا، تتعدد صلات القربى منهم بتعدد وجودهم في حياتنا، فهناك أقرباء الدم، وأقرباء المصاهرة، وغيرهم بالزمالة والرفقة، إلى آخرها الكثير من درجات الصحبة، ولكن الأصحاب لهم مكانة خاصة، تفوق علاقتهم بنا علاقتنا بأشقائنا في ذات المنزل، وهؤلاء منهم من يكونون رفقة الطفولة، تظل علاقاتنا بهم مستمرة باستمرارنا في الحياة، وبعضهم يرتبطون بنا إذا ما كانت لديهم مصالح تخصهم، ثم ما يلبثون أن يتساقطوا من حياتنا كما تتساقط أوراق الشجر من فروعها، وهؤلاء -المنتمون بوصوليتهم إلى الطفيليات البشرية - غير مأسوف عليهم، لأنَّ الله أراد بك خيراً بإزاحتهم من حياتك.

ما أروع العلاقات الصحيحة العميقة، التي لا تبنى على المصالح الشخصية وحسب، بل تمتد بامتداد العمر، بكل لحظاتها وأحداثها حلوها ومرها، والصاحب الحريص على بقاء الود والإخلاص تجده يرد غيبتك، ويدفع عنك ما ليس بك، ويستر عليك، ويظل على عهد الصحبة حتى وإن فرقت بينكما صروف الدهر، وقد جاء ذكر الأصحاب بأنواعهم المُختلفة في القرآن وفي السنة، وكلنا نذكر الكلم النبوي الشريف، حينما ردَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- على الرجل الذي استغرب اختلاف ردود الصحابة -رضوان الله عليهم- في مسألته، قال له صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم، اهتديتم"، ما أجمل الوصف وأروعه، الذي لا يصدر عن الهوى.

والتلون نجده في الكثير والكثير من البشر، فهناك أصناف من البشر يتلونون كالحرباء، فيكتسون وبسرعة عجيبة بلون المحيط، وذلك كي يصل كل منهم إلى مأربه، فيصبغ كلماته وحركات جسده لتتوافق مع الهدف الذي يُريد الوصول إليه؛ يحكى أنَّ رجلاً جاء إلى أحد القضاة، وقال له: تركت مالي عند أحد أصحابي، فلمَّا طلبته منه قال لي: ليس لك عندي شيء. فأمر القاضي بإحضار المتهم، فلما حضر ظل الشاكي يقول للقاضي: أقسم بالله أنَّ مالي عنده وديعة، فتعجب القاضي من الرجل، لأنه أقسم بالله دون أن يطلب منه، وأحس بكذب هذا الرجل في إدعائه، ففكر القاضي قليلاً، ثم قال له: بل قل: أقسم بالله أن نقودي عند هذا الرجل وديعة، فارتبك الرجل وتردَّد، وهكذا فهم القاضي الذكي حيلة الرجل، لأنه قال: مالي عنده وديعة، وهذا الكلام يحتمل معنيين، المعنى الأول: هو ليس لي عنده مال، والثاني: هو مالي قد أخذه هذا الرجل وديعة، فعاقبه القاضي على كذبه وافترائه.

في عرفنا القانوني اليوم فإنَّ هذا يعتبر احتيالا، الرجل حاول تلوين وتطويع الألفاظ في لغتنا الجميلة ليحصل على أموال المدعى عليه، ولكن كانت فطنة القاضي هي الفيصل لتضع حداً لهذا التلاعب، لذا تأتي الفطنة لتكون العدو الأول للمتلون، لأنها تحاصر زيفه، فيعي أنه قد أصبح مكشوفاً وأن اللون الأسود قد طغى على جوارحه، وفي عصرنا الحالي نجد في مواقع التواصل الاجتماعي، درجات من الألوان التي لم نعهدها من قبل، يستغلون بمعسول كلماتهم مشاعر المُتلقي، يرصون كلماتهم المُنتقاة للنيل من شخص ما أو جهة معينة، ولكنها فطنة القارئ أو المتلقي هنا هي الحكم بينه وبين ما هو مكتوب، لأنه أذكى من أن يتم استغباؤه بالاستماع إلى طرف واحد، وكم من شخصية قرأت محتوى رُصَّ بعناية فائقة، فابتسمت وهي تستعيذ بالله العلي العظيم من الشيطان الرجيم ورددت (فتبينوا) صدق الله العلي العظيم ٩٤: النساء، ٦: الحجرات.

 

أخيرًا، هنالك أصحاب يظل اللون الأبيض سمتهم الرائعة، ويظلون بذات النقاء لا يُؤثر فيهم مال ولا قيل ولا قال، هم خلفك وأمامك سيان لا يتبدلون، أولئك نعض عليهم بالنواجذ، حتى لا نخسر إخوة قدريون، وضعهم المولى في حياتنا لنتوكأ على قلوبهم، ويتوكأون على أرواحنا ما بقيت نعمة الذاكرة حاضرة فينا؛ وسلطنة عُمان هي هذا الصاحب الذي لا يتلون، ثابت ثبات جباله الشماء، راسخ بمواقفه الناصعة وتأريخه العريق، يحتضن الأضداد قينقلبون بنعمة من الله إخوانا، يسعى ويجتهد ليُؤلف بين القلوب، وينشر السلام عندما تشتد الخطوب، تلك هي الحكمة السلطانية التي أصبحت ملجأ للقاصي والداني، فاللهم أدم علينا النعم واحفظها من الزوال.

 

 

توقيع:

"إذا نظرتَ نيوب اللّيثِ بارزةً،، فلا تظنَنَ أَنَّ اللّيثَ يبْتسِمُ.

ومُهْجَةٍ مُهْجتي مِنْ هَمِّ صاحِبها،، أَدْرَكتها بجَوادٍ ظَهْرُهُ حَرَمُ.

رجلاهُ في الركضِ رجلٌ واليدانِ يدٌ،، وفعلُهُ ماتريدُ الكَفُّ والقَدَمُ.

ومُرْهَفٍ سِرْتُ بين الجَحْفليْنِ بِهِ،، حتى ضَرَبْتُ وَمَوْجُ المَوْتِ يلتطِمِ."

المتنبي.