هل نعرف ماذا نريد؟

حاتم الطائي

 

 

لم يعد التساؤل مقتصرًا على الإنسان، بل الدول والمنظمات وحتى الشركات

الأفكار الخلاقة والإرادة القوية والإمكانيات المتاحة.. مثلث النجاح والتقدم

وحدة الأمة والإصرار على الهدف والاجتهاد.. وسائلنا لتذليل أية تحديات تعرقل المسيرة

 

 

 

لا تخلو أي منظومة فكرية أو تنموية حقيقية من الإجابة عن سؤال ملح وبالغ الأهمية مثل سؤال الذات؛ سؤال يحمل العديد من علامات الاستفهام، ويغوص في أعماق التفاصيل بحثا عن إجابة مرضية وشافية للحيرة التي تجتاح الإنسان عندما يطرح تساؤل من أنا؟ وماذا أريد؟

هذا التساؤل في حد ذاته بداية الطريق نحو الوصول إلى إجابات مقنعة، إجابات تعتمد في الأساس على وضوح الرؤية والهدف، وقوة الإرادة في داخلنا، والعزيمة الصادقة والإخلاص الحقيقي لبلوغ النتيجة. ولطالما كانت معرفة الذات أحد أبرز التساؤلات الفلسفية والوجودية في حياة الإنسان، فقد انشغل الفلاسفة والمفكرون منذ القدم وحتى يومنا هذا بالتساؤل عمّاذا نريد؟ وماذا يريد الإنسان من هذه الحياة؟ ولم يعد هذا التساؤل مقتصرا فقط على الإنسان، بل باتت الدول والمنظمات والمؤسسات وحتى الشركات تطرحه على نفسها، وتستعين ببيوت خبرة ومختصصون وتشكل اللجان المتعددة للإجابة عن سؤال الذات.. سؤال الهويّة، من نكون؟ وماذا نريد؟

لا أريد الخوض في تفاصيل فلسفيّة بحتة، لكنّي أسعى لأنطلق من هذا المبحث إلى آفاق عملية تتماشى مع طريقة تفكيرنا المعتادة والبسيطة، فحتى الإجابات عن الأسئلة الفلسفية الكبرى اتّسمت بالبساطة في آلية الوصول إلى إجابات شافية لها. ولذلك عندما نتحدث عن سؤال الهويّة وماذا نريد، فإننا لا نطلب المستحيل أو ننغمس في الضبابية، بل نريد أن نؤسس لفكر منهجي قائم على النقد البنّاء والتحليل واستشراف المستقبل وفق رؤية ثاقبة وواضحة المعالم وقواعد تنظيمية بسيطة، ترتكز في جوهرها على ما نملك من إمكانيات وما يمكن أن نقوم به بناء على هذه الإمكانيات، وفي أي اتجاه نوظفها.

وهذا يقودنا إلى التمييز بين الإمكانيات والقدرة على التنفيذ، فالإمكانيات هي تلك المقوّمات التي يملكها الفرد أو المؤسسة أو الدولة في الأساس، فإمكانيّات الفرد هي القدرة على التفكير ورؤية الأهداف والسعي والقيام بمختلف المهام، في حين أنّ إمكانيات المؤسسة ربما تتمثل في عدد العاملين فيها ورأس المال الذي تأسست عليه والأصول المملوكة والمنتجات التي تطرحها، وكذا الحال بالنسبة للدول؛ فإمكانيات الدول تتجلى في الموقع الجغرافي وتعداد السكان والمميزات الاستراتيجية وطبيعة الأرض أو السواحل التي تتوافر لها، وغيرها الكثير من الإمكانيات التي غالبا متوافرة، وتحتاج فقط إلى من يضع خطة للاستفادة منها وآلية لتنظيم هذه الاستفادة.

على مستوى الأفراد، فإنّ الإجابة عن سؤال الذات، تتمحور حول معرفة خصائص هذه الذات، ما الذي يمكن أن تقدمه بنفسك لنفسك، وما هي خطتك لتجاوز العقبات التي ستواجهك حتمًا في حياتك؟ ومثل هذه التساؤلات تفرض علينا كآباء ومربين وصناع فكر أن نعزز لدى أبنائنا وبناتنا قيم الاعتماد على الذات، والتفكير في الحلول لجميع المشكلات التي يواجهونها، لكي يدركوا منذ الصغر أنّ الحياة ليست بالبساطة التي قد يتوهمها البعض، وأننا جئنا إلى هذه الحياة من أجل القيام بأعمال روتينية لا إبداع ولا ابتكار أو إرادة في تسييرها.

الأمر عينه للمؤسسات والشركات في القطاعين العام والخاص، لا يجب أن يتوقف دور أي مؤسسة حكوميّة على تقديم الخدمات للمراجعين، والاكتفاء بتوفيرها عبر مكاتب الموظفين أو المواقع الإلكترونية، بل يتعيّن عليها أن تضع حزمة من الأهداف: كم موظفا تريد هذه المؤسسة أن يتطورا في العام؟ وكم من خدمة تسعى لتقديمها سنويا؟ بل كم مراجع تخطط هذه الجهة أو تلك لتقديم خدماتها إليهم؟ وكيف يمكن أن تطور هذه المؤسسات من قدراتها وإمكانياتها؟ وألا تتعلل بنقص الاعتمادات المالية أو تزعم عدم قدرتها على اتخاذ قرار في مسألة ما؛ لأن الأمر يحتاج إلى قررات عليا!

وإذا ما نظرنا للقطاع الخاص كذلك نجد أنّ الإجابة عن سؤال الذات لمؤسساته وشركاته تضع الحلول لكثير من مشكلاتنا؛ فالقطاع الخاص المنتج ليس فقط للسلع والخدمات، بل المنتج للكوادر الوطنية والمؤهل للكفاءات الشابة هو قطاع ناجح، فما من شركة أو مؤسسة تضع خطة للتعيينات تستهدف من خلالها توفير الوظائف للشباب وحسب دون أي مردود إضافي فهي شركة لن تدوم على حالها، في حين أنّ الشركة تنجح وتتميز عندما تستهدف من تعيين الشباب بناء كادر وظيفي ومهني قادر على قيادة دفة الشركة في مرحلة ما، وهذه الكوادر تمثل صفا ثانيا من القيادات، مستعد في أي لحظة لأخذ زمام القيادة، بما يدعم نجاحات هذه الشركة ويزيد من وتيرة الإنتاج فيها.

إنّ لكل إنسان حلما ورسالة في الحياة؛ وهذا الإنسان سواء كان فردًا أو رئيسا لمؤسسة أو شركة، إذا ما غابت هذه الرسالة عن حياته فسيعاني من نتائج وتبعات لا يتمناها؛ وربما يفقد بسببها إمكانية العيش في حياة كريمة مليئة بالأهداف والرسائل، وينحدر إلى هوة سحيقة من التيه وهدر الفرص الحياتية نتيجة لفقدان البوصلة في الحياة.

ما يدعونا لتسليط الضوء على هذه القضية الفلسفية أنّها تتفاقم؛ فالذين لا يملكون أهدافا حقيقية في حياتهم يتعرّضون لأشد أنواع المعاناة، رغم عدم إدراكهم ذلك؛ خاصة مع انتشار وسائل الاتصال والترفيه الحديثة التي تسببت في إلهاء الكثيرين، وتغييب العقل والإدراك، وطمس الهوية، ووأد التفكير المنطقي. لقد أصبح الإنسان غير الواعي بمساره عرضة للانزلاق نحو الأوهام والأباطيل، والوقوع في غيابات المجهول، والتخندق بين الضلالات، حتى يظن أنّه لن ينجو وأنّه ساقط لا محالة، فيظل في القاع لا أحد يراه ولا هو قادر على إيصال صوته.

والأمم والأوطان على مر العصور انقسمت إلى فسطاطين؛ الأول أدرك حتميّة الإجابة عن سؤال الذات والمعرفة، والآخر تجاهله وظلّ في حالة من الضياع الفكري والحضاري. الأمم التي أدركت الإجابة نجحت وأسست لحضارات لا تزال قائمة حتى الآن، وما تركته من إرث فكري وحضاري ظل شاهدًا على عظمة الإنسان الذي فكّر وقدّر الأمور فنجح في تحديد هويّته والبناء عليها؛ بينما الأمم التي رفضت من الأساس طرح التساؤل أو فشلت في الإجابة عنه ما لبثت أن اجتاحتها رياح التخلّف والجهل والتراجع الحضاري.

إننا في أمس الحاجة إلى بوصلة ترشدنا إلى طريق بناء المستقبل والحضارة؛ بوصلة تحدد لنا أولا: من نحن؟ وأين نقف؟ وماذا نريد؟ لننطلق بعدها نحو آفاق من العمل الإبداعي الخلاق والطموح، بروح الفريق الواحد، الوطن الواحد، الأمة الواحدة، وعندئذ لن تستطيع أي قوة في الكون أن تقف عائقا أمام إرادتنا، لأنّها إرادة رساليّة متجذّرة في الأرض لكنّها أيضا تعانق السماء، تتقاطع وجهتها فيما نملكه من مقومات عامرة بقوة الملكات الإبداعية والأفكار العصرية، وبما وصلنا إليه من مرحلة رشد فكري نستطيع أن ندرك به حقيقة الأمور دون التباس أو غموض، ونبتعد بوجهتنا عن مسارات الضعف والخمول، ونتجنّب فيها مصارع السوء، حينئذ نكون قد حققنا الجانب الرسالي في حياتنا، وطبّقنا الرؤية الإّلهية للإنسان في أن يكون مستخلفا في الأرض، يعمرها ويبني الحضارات أمة تلو أمة، لا أن يقف عاجزا ومتفرجا...

فهل نعرف ماذا نريد؟!