عبيدلي العبيدلي
وتلمس المعالجات الحديثة لمفهوم "القوة الناعمة"، ذلك التحول السريع والمتواصل لدى العديد من الدول، وفي مقدمتها الدول العظمى، من الاعتماد شبه المطلق على "القوة الصلبة"، فحسب، إلى المزج بين القوتين، مع انحياز مستمر نحو تعزيز مستوى الاستفادة القصوى مما توفره "القوة الناعمة"، من مصادر كفوءة وفاعلة لتقوية عناصر السيطرة والنفوذ.
وتفسر الباحثة في العلاقات الدولية وشؤون الأمن القومي، آية عبد العزيز، هذا التحول، بحصره في ثلاثة أسباب مفصلية تلخصها في النص التالي:
- بروز دور الفاعلين من غير الدول في النظام العالمي، حيث أصبحت أدوارهم تتعدى حدود الدول كما أنّ أهدافهم ليست قاصرة على السياسة الداخلية للدولة فحسب بل أصبحت ذات تأثير واضح على النظام الدولي. تأتي في مقدمة هذه الفواعل التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، والشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات الحقوقية وغيرها.
- تراجع الكثير من الدول في استخدام القوة العسكرية والدخول في حروب طويلة، حيث عدم القدرة علي التغلب علي كثرة التكلفة سواء البشرية والمادية. ومن أهم الحالات دخول الولايات المتحدة الأمريكية حرب فيتنام بدون وضع أهداف حقيقية وأيضًا استراتيجية خروج واضحة الأمر الذي ترتب عليه تكبدها خسائر فادحة، علاوة على تكرار نفس السيناريو في غزو العراق واحتلالها. جعل ذلك الرأي العام الأمريكي يؤثر علي صانعي السياسة الخارجية الأمريكية بالتراجع في الدخول في حروب عسكرية مرة ثانية ما وضح في الأزمة السورية.
- أصبحت قوة الدول تقاس بمدى توظيفها لأدواتها الثقافية وقيمها السياسية وتاريخها الحضاري ليس فقط بمقدار الناتج القومي ولا ما تمتلكه من قدرات عسكرية.
ومع تطورها كأحد عناصر السيطرة والنفوذ، ليس في محيط تأثيرها المحلي، أو الإقليمي فحسب، بل حتى على النطاق الدولي، لم تعد القوة الناعمة مجرد نوع من أنواع التواصل الهلامي، بل باتت قوة مادية ملموسة، لها معايير قياسية محددة، دون أن ينفي ذلك صعوبة تحديد هذه المقاييس. ذلك ما ينوه له د. إبراهيم نوار حين يقول "تحيط بدراسة القوة الناعمة صعوبات شتى من أخطرها صعوبة القياس، وذلك على العكس من القوة المادية التقليدية التي يسهل قياسها بمؤشرات مادية قابلة للقياس. ومن ثمّ فإنّ إدراك مقومات القوة الناعمة باعتبارها مفهوماً مقارناً، يتوقف على سلامة قياس مؤشراتها المختلفة. وتعتبر المنهجية المستخدمة في تحديد وقياس مؤشرات القوة الناعمة في تقرير (القوة الناعمة العالمي) من أفضل ما تم إنجازه حتى الآن على هذا الصعيد".
ولتحقي مواصفات التقييس خطت، مؤخرا، بعض المؤسسات من مستوى "مؤسسة بورتلاند للاتصالات"، وهي مؤسسة "تعمل بالاستشارات الاستراتيجية للحكومات والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات للتواصل بشكل أكثر فاعلية مع الجمهور العالمي، واعتمدت بورتلاند على قياس القوى الناعمة للدول بتحديد درجة من 100، بناء على 6 أسس للسمعة والنفوذ".
وفي مقالة مفصلة نقل مركز "ساسه SASA ... https://www.sasapost.com/ "، وهو، كما يقول عن نفسه "مركز إعلام إلكتروني؛ يتخِّذ من الفضاء الإلكتروني مساحة تعبيرٍ، وتأثيرٍ، وتشاركٍ في إنتاج كافة أنواع المحتوى الإعلامي مواكبًا لتطوُّر أدوات الإعلام الجديد وآلياته ومُطوِّعًا لها في خدمة جمهوره... عربيٌ؛ يتوجَّه إلى الإنسان العربي أينما كان". نتائج بحث لقياس القوة الناعمة، قامت به مؤسسة بورتلاند.
حددت مؤسسة بورتلاند، كما يقول موقا "ساسه"، تلك المقاييس الستة على النحو التالي:
- الحكومة وتقييم جودة المؤسسات السياسية في البلاد.
- الثقافة؛ أي مدى الانتشار الثقافي للدولة عالميًّا.
- المشاركة العالمية والسياسة الخارجية وقوة العلاقات الدبلوماسية.
- التعليم، والسمعة العالمية لنظام التعليم العالي الخاص بالدولة.
- الاقتصاد ومدى جاذبية النظام الاقتصادي للدولة واجتذابه لمشاريع المستثمرين حول العالم.
- التواصل الرقمي للدولة مع العالم.
النتيجة غير المتوقعة، التي خرج بها البحث الاستقصائي لمؤسسة بورتلاند هو أن بريطانيا وليست الولايات المتحدة، أو روسيا، أو حتى الصين، هي من تبوأت المكانة الأولى. وقد جاء ترتيب الدول العشر الأولى، وفقا للنسب التي نالتها كل واحدة منها على حدة، على النحو التالي:
- المملكة المتحدة (بتقدير 75.61).
- المانيا (بتقدير73.89).
- الولايات المتحدة الأمريكية (بتقدير73.68).
- فرنسا (بتقدير 73.64).
- كندا (بتقدير 71.71).
- أستراليا (68.92).
- سويسرا (67.52).
- اليابان (بتقدير66.86).
- السويد (بتقدير 66.49).
- هولندا (بتقدير 65.21).
يشاطر ما ذهبت إليه مؤسسة بورتلاند، في غياب الولايات المتحدة عن المركز الأول بين صفوف الدول التي تستخدم القوة الناعمة في بسط نفوذها، وتعزيز مكانتها، مؤسسة غالوب الأمريكية، التي أجرت استطلاعا شمل 134 دولة، حلل نتائجه أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد ومساعد وزير الدفاع الأمريكي للشؤون الأمنية الدولية الأسبق جوزيف ناي، وقام بترجمته محمد سعيد موسى، جاء فيه "أنّ القوة الناعمة لبلده تآكلت في عهد ترامب. فقد كان المشهد جليًا عندما أكد 30٪ فقط من المستجيبين لهم موقف إيجابي تجاه الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب. وهو انخفاض بنحو 20 نقطة مئوية منذ رئاسة باراك أوباما. وأشار مركز بيو للأبحاث إلى أن الصين - بدعم من 30٪ وصلت تقريبا إلى التكافؤ مع الولايات المتحدة. وفي المؤشر البريطاني "سوفت باور 30" (القوة الناعمة 30)، تراجعت أمريكا من المركز الأول في عام 2016 إلى المركز الثالث في العام الماضي. وقال المدافعون عن ترامب إنّ القوة الناعمة غير مهمة. وأعلن ميك مولفاني مدير مكتب الميزانية في البيت الأبيض عن "ميزانية القوة الصلبة"، حيث خفض تمويل وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بنسبة 30٪ بالنسبة لأولئك الذين يتصرفون تحت شعار "أمريكا أولا"، كل ما يفكر به بقية العالم هو ذو أهمية ثانوية. هل هم على حق؟ تقوم القوة الناعمة على الجاذبية، وليس على الإكراه (العصي) أو المال (الجزرة). فهي تحتضن الناس بدلا من إجبارهم. وعلى المستوى الشخصي، يدرك الآباء الحكماء أنّ قوتهم ستكون أكبر وستستمر لفترة أطول إذا كانوا يمثلون القيم الأخلاقية السليمة لأطفالهم، ولن يعتمدوا فقط على الضرب أو العقوبات أو التهديد بأخذ مفاتيح السيارة".