بالقسطاس وإن كان في ذرة

 

عائشة بنت أحمد سويدان البلوشية

 

بالرغم من اختلافهما في كل شيء بدءًا من الكثافة إلى اللون والصنف والنوع وكل شيء بينهما، إلا أنَّ لكل منهما دوره وأهميته في حياتنا اليومية، فكلنا يعلم أن طن القطن يُعادل طن الحديد، ولكن لنتخيل كمية القطن الهائلة التي يجب أن نضعها لتعادل طناً من الحديد، وهكذا هي المواقف في الساعات الأربع والعشرين في اليوم والليلة، قد تتشابه في بعض الكلمات أو الأحداث، لكن من الاستحالة بمكان أن تتطابق في كل شيء.

عندما تصاب بجرح في إصبعك على سبيل المثال، لن تأتي بقطعة حديد لتداوي جرحك، أو أن تطهره -مثلا- ببرادة الحديد، بل ستسارع إلى قطعة من القطن مبللة بمطهر طبي ثم تقوم بربطه بالشاش، والأمر كذلك عندما تدخل في مراحل وضع أساسات أي منزل قيد الإنشاء، فإنّك لم ولن تحشوه قطناً، بل سيبلغك المهندس بكميات الحديد التي يجب أن تبتاعها لتتماسك خرسانة بناء بيتك، والأمر سيان في جميع أمور حياتنا.

هنالك مواقف يجب أن نراعي جيداً ما هو الرد الأمثل لتقوِّم الإعوجاج، أو لتصلح وتتدارك ما يمكنه أن يسبب مشكلة عاقبتها قطيعة رحم، أو قطع أواصر قربى دم أو مصاهرة أو صداقة دامت ردحاً من الزمن، إنها بالضبط تشبه لعبة الأطفال والكبار، التي نقوم خلالها بتركيب الكثير من القطع لنصل للشكل الصحيح في نهاية اللعبة، ويجب أن نضع كل قطعة في مكانها الصحيح وإلا اختلت اللعبة، فكم من قضية وصلت أمام أصحاب الفضيلة قضاة المحاكم المختلفة بدرجاتها، كان يُمكن حلها بالتنازل أمام الله تعالى لأجل رحم قريب جدا، أجرحناه بجرجرته إلى محكمة أو إدعاء عام، وألحقنا الإهانة بأنفسنا قبل مقام سنه وقدره بيننا، ولكنه الطمع والغلو هو المحرك أمام مواقف التعنت هذه، ونقرأ كتاب الله تعالى، ولكننا نكون بسرعة البرق عندما نصل إلى الآيات التي تتحدث عن الإحسان والحسنى وعن الوصايا بذوي القربى.

 

قال تعالى في محكم كتابه العزيز: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 35: الإسراء، وجاء في التفسير أن "قَضَى أن زنوا أيضًا إذا وزنتم لهم بالميزان المستقيم، وهو العدل الذي لا إعوجاج فيه، ولا دَغَل، ولا خديعة". فجاءت لفظة "القسطاس" في الآية الكريمة لتوضح لنا نحن جميعاً المعنى الذي لا لبس فيه، أن نعدل في كل أمر، وإن عجزنا يجب أن نستمر في المحاولة، ونهانا الشارع الحكيم عن أن نبخس الناس أشياءهم، فإذا كنّا في تلك المواقف التي تتطلب الحكم بالقول والفعل، يجب أن نتأكد جيدًا من رمانة الميزان، وندرس جوانب الأمر بالعقل والقلب والتشريعات السماوية والأرضية، لنخرج بالمخرج الأمثل، لأننا وربي محاسبون على على المثقال حتى وإن كان "ذرة".

 

إنَّ الحكمة السلطانية أمام ما نجده من مواقف التزلف والغرور فيما يمر بنا في هذا العصر، ترد على كل ذلك بروية عجيبة ورؤية عظيمة، منطلقها نظرة ثاقبة لمجريات الأمور، ورغبة مستمرة لرأب الصدع ولم الشمل، هذا على الصعيد الأكبر والدوائر الأوسع، إذا ما (كنَّا حليمين ونستلذ الهرجه) كما قال أسلافنا، ونتخذ هذا الصبر والجلد السلطاني الكريم في جميع الأمور على الصعيدين الداخلي والخارجي، وحاولنا أن نحذوا حذوه مع القريب والبعيد، لننجو بأنفسنا من مهالك النفس ومهاوي الآخرة.

 

----------------------------

توقيع:

 

"ولما رأيت الجهل في النَّاس فاشيا،،

تجاهلت حتى قيل إني جاهل.

فوا عجبا كم يدعي الفضل ناقص،،

ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل."

أبو العلاء المعري.