جمال الكندي
الشد والجذب والتصريحات النارية العنترية تارةً، والمهادنة والمسالمة تارةً أخرى بين أمريكا وإيران، تبرز عنواناً جديداً بينهما يتبناه الفريقان يسعيان إلى تحقيقه، عن طريق الوسطاء المقبولين لدى أمريكا وإيران في المنطقة.
العنوان البارز هو إيجاد حلول وسطية بين أمريكا وإيران عن طريق دول خط الرجعة الذين باتوا معروفين في المنطقة، وعلى رأسهم سلطنة عمان، فلا أحد يريد الحرب ولو كبر طبولها، خاصةً من الجانب الأمريكي، وكلا الفريقين يحرصان على ألا تخرج الرصاصة الأولى منه، والرسائل العسكرية التي أرسلت عن طريق حلفاء إيران فهمتها أمريكا جيداً، لذلك خفت وتيرة تصريحاتها بتدمير إيران، وأدرك الأمريكان وحلفائهم قوة إيران العسكرية مع حلفاؤه، وماذا تعني الحرب معها؟ وكذلك الأثمان التي ستدفع اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً في خوض هذه المعركة مع قوة إقليمية مثل إيران.
هذا المناخ الضبابي بين إيران وأمريكا لن يبني قاعدة حرب في المنطقة لمعرفة كل الطرفين بأن هنالك أكلافاً سوف تدفع، لا يقدر الجانبان تحملها، لذلك نرى مساع أمريكية من خلف الكواليس لتهدئة الموقف، وإخراج سيناريو مشابه لما كان في عام 2013 م بسوريا عندما أرسل الرئيس السابق "أوباما" الأساطيل العسكرية إلى المتوسط لضرب سوريا بحجة الكيماوي، ونزع فتيل الحرب بالمبادرة الروسية التي قضت بتسليم الجيش السوري مخزونه من المواد الكيميائية.
وهذا المناخ بين أمريكا وإيران يخرج لنا استراتيجية جديدة قديمة لأمريكا في المنطقة مع إيران وهي (اللا سلم واللا حرب معها)، تقابلها استراتيجية البقرة الحلوب مع حلفائها، ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك استمرار النهج الأمريكي في خلق عدو في المنطقة سواء كان من صنعه أو عن طريق استغلال الاختلاف الأيديولوجي والإثني بين العرب وإيران وتوظيف ذلك في إدامة الصراع بينهما، وإدارته ليصب في مصلحة أمريكا وأمن إسرائيل.
نظرية البقرة الحلوب موجودة في العقل السياسي الأمريكي، سواءً في الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، إلا أنها عند الأخير كانت بطريقة مهذبة لا تثير حفيظة الشارع العربي والإسلامي، وتغلف بمشاريع طويلة الأمد مقرونة بتطوير البنية التحتية لحلفاء أمريكا.
جاء الرئيس الحالي ترامب امتدادا لهذه النظرية، ولكنه كان صريح جداً في طرح نظرية البقرة الحلوب، فهو رجل أعمال ولا وقت لديه لتزيين الكلمات.
إن التوتر السائد اليوم بين إيران وأمريكا - في الأساس - يخدم مصالح أمريكا في المنطقة، كيف ذلك؟ - بكل بساطة - أن أمريكا لا ترغب في الحرب، وإيران ليست العراق وسنشرح ذلك لاحقاً، فأمريكا تريد إبقاء أسباب التوتر في المنطقة مفتوحة لأن ذلك يخدم استراتيجيتها (اللا حرب واللا سلم) التي تستنزف أموال حلفائها في المنطقة، فبدون "بعبع" أسمه "داعش" في الماضي، واليوم اسمه إيران لا تقدر أمريكا العيش مع حلفائها، فعقليتها مبنية على وجود عدو تستنزف من خلاله أموال دول النفط.
الأزمة بين أمريكا وإيران كلما كبرت وتشعبت وتعمقت مقابلها استراتيجية الحلب الممنهج تحت ذريعة مواجهة إيران، فبمقدار التهديدات تكبر صفقات الأسلحة، والاستقرار في المنطقة لا يخدم سياسة أمريكا والحرب كذلك فتبقى بذلك المنطقة في حالة (لا سلم ولا حرب) لأنّ أمريكا تدرك قوة الخصم بعكس الوضع في الحالة العراقية، فقد أدخل العراق في دوامة الحروب بداية مع إيران، وبعدها أوقعوه في فخ احتلال الكويت، ثم الحصار الجائر الذي فرض عليه لأكثر من عشر سنوات وإضعافه من الداخل، وأخيراً احتلاله في أقل من شهر.
هذه العوامل لا نجدها متوفرة في الوضع الإيراني، لذلك فأمريكا تفكر ألف مرة قبل الدخول معها في حرب مفتوحة تعلم نتائجها مسبقاً، خاصةً وأن لإيران حلفاء عسكريين في المنطقة ينتظرون الإشارة لبدء أي معركة تخدم مصالحها.
الحرب مع إيران لن تقع والدليل على ذلك الوساطات المتتابعة من قبل أمريكا لإرجاع الوضع للمربع الأول، ولتغيير هذه النظرية جاءت مبادرة إيرانية على لسان وزير خارجيتها "محمد جواد ظريف " بأن إيران على استعداد لتوقيع معاهدة عدم الاعتداء مع جميع دول المنطقة وذلك خلال زيارته لدولة العراق.
نحن اليوم أمام اشتباك مع إيران تدفعه قوى معينة ومعروفة في المنطقة لها حساباتها الخاصة، ولكن تبقى هناك عقول سياسية وعسكرية تدرك عواقب الانزلاق في حرب نتائجها خاسر / خاسر. لذلك تبقى نظرية (اللا سلم واللا حرب) هي السائدة والمرغوبة لدى الإدارة الأمريكية، فهي التي تحقق استراتيجية البقرة الحلوب.