ما هو الطبق؟

 

عائشة بنت أحمد سويدان البلوشية

ربما ظنّ البعض بأنني بصدد شرح وصفة لطبق رمضاني لذيذ، ولكن دعونا نأخذ الأمور على مهل حتى نصل إلى القصد؛ أتذكر إحدى سوالف جدتي الحبيبة -أطال الله في عمرها- عن زوجة الراعي الفقيرة، التي ظلت تجمع القليل من الزبدة من الحليب الذي كان يعطيه إياه صاحب الغنم مع نهاية كل يوم ينتهي فيه من رعي الأغنام والماعز، وتطلب ذلك منها وقتا لا بأس به، حتى تمكنت من جمع قدر لا بأس به، فأخذت تذيبه وتطبخه مع بزار السمن (خلطة من البهار الخاص لازال يستخدم حتى يومنا هذا لفصد الزبد عن الشوائب، ولإضفاء تلك النكهة والرائحة الشهية على السمن العماني)، ومن فضل الله جاء السمن ملء جرة، فكانت سعادتها عظيمة، حيث وضعت الكتاة فوق رأسها (حلقة تصنع من السعف قديما لتحافظ على توازن أي شيء يحمل على الرأس)، ثم وضعت جرة السمن واتجهت نحو السوق لبيع ما بها، وفي الطريق لفت انتباهها قطيع من الخرفان، فدار بينها وبين نفسها حديث عن حلمها القادم، قالت سوف أبيع السمن كله، وسأشتري بثمنه ما يوازيه أغناما، سأربيها وأطعمها، حتى يتضاعف عددها، وسأبيعها كلها لأشتري مقابلها بقرة حلوبا، وسأصنع السمن وأبيعه، وأشتري أغناما في المقابل حتى يصبح لدي قطيعا من الأغنام والخراف، وهكذا حتى يصبح لدي الكثير من الأنعام، ويصبح زوجي راعيا لأملاكنا، وعندما تأتي جارتي لتطلب مني حليبا أو سمنا، هزت رأسها بطريقة وابتسامة التشفي ترتسم على وجهها وقالت: سأطردها، وساذكرها بذلك اليوم الذي طلبت منها أن تعيرني السعن (قربة مصنوعة من الجلد المدبوغ يستخدم لخض اللبن)، ورفضت مدعية بأنه ملآن ولا يمكنها أن تفرغه، ولأنها كانت تمشي و تحلم في نفس الوقت لم تنتبه لذلك الحجر في الطريق، فتعثرت قدمها ووقعت على وجهها، لتنكسر جرة السمن ويتسرب ما بها داخل الأرض، ومعه يتبخر الحلم.

يظل الانسان يسعى خلف لقمة العيش منذ اللحظة الأولى التي يعي فيها أن عليه أن يكدح ويسابق الزمن من أجل  توفير وضعا معيشيا أفضل، وحالة اقتصادية واجتماعية أحسن من التي يكون عليها، وحتى إن لم يصل، يظل يحلم بذلك، وهنالك من يحلم بلحظة أن يتاح له فرصة كسب أولى في حياته، سواء بوظيفة أو مهنة، لذلك عندما أنزل الله تعالى الإنسان إلى الأرض وأمره بعمارتها، ذللها له وسخر كل ما فيها ليستغله في كسب عيشه، وهذا يتضح جليا بالنص القرآني في قوله تعالى: (هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولࣰا فَٱمۡشُوا۟ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا۟ مِن رِزْقِه وإليهِ النُّشُور)15: الملك.

يحلم المرء منا ويصل إلى ما أراده الله تعالى له من رزق، ويجلس على الكرسي -أيا كان مستواه، وقد يكون هنا بمعناه المادي أو المجازي- فيصاب بالعجب (بضم العين) -إلا من رحم ربي- لأنه أفضل عن غيره، وينسى إنما هو على كرسي الأمانة، وأن هذا المكان/ المكانة معلق في عنقه، والكرسي قد يكون كرسي العمل/ الدراسة، أو حتى صلة قربى/صداقة، فلربما ازدرى قريبا ابن عمه، ونظر إليه بدونية لأنه وصل إلى رتبة ما، وتزوج من ابنة صاحب ثروة، ولربما انتقص ذكي من زميله الأقل منه تحصيلا في الدراسة، وأحرجه أمام زملائه، ولربما عامل رئيس قسم موظفي قسمه باحتقار، أو نفش ريشه على صحبه وأقاربه، لأنه حصل على بعثة خارجية وجاء توزيعهم داخليا، وهكذا قياسا، هؤلاء جميعا وغيرهم تعجبهم ليونة اللحظة الوهمية، ومخملية الإحساس الخاطىء، فينسون التكليف الذي وضعه لهم رب العباد قبل ولي الأمر، فيظلمون وينسون أن الأيام دول، وأن ابن عمك هو سندك وعضيدك عندما تدور الأيام، وأن زميلك في الدراسة، الذي قللت من شأنه أصبح مديرك في المستقبل، وأنّ موظفي قسمك الذين ذللتهم سابقا، جئتهم غدا محتاجا لخدمة، وأنّ صحبك تخرجوا وحصلوا على فرص وظيفية وأنت قابع تنتظر دورك، قال تعالى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ) 19: الانشقاق، وجاء في جميع التفاسير أن هذه الآية نزلت على رسولنا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله ليطمئنه الله تعالى أن الله سيغير عليه من حال إلى حال؛ وهذه هي الحياة، ندور في دوائرها أو أفلاكها لنعود لنفس النقطة، ففقير اليوم ربما أصبح ثري الغد، وصحيح الأمس كان عليل اليوم، وهكذا، ننسى الطبق الذي نحن عليه، ونظن بأننا مخلدون فيه، وننسى لحظة اللقاء العظيمة،  قال عز من قال: (يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) 6:الانشقاق، أي ساع إلى ربك سعيًا، وعامل عملًا، ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر، و إذا كان خير من وطىء الثرى -صلوات ربي وسلامه عليه وآله- سيجازى بما عمل، فمن نكون نحن حتى نظن عكس ذلك؟!، حيث روى الحاكم في المستدرك من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: "جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَال: يَا مُحَمْد عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ". ليس عيبا أن نحلم، ولكن العيب أن نغمض أعيننا على ذلك الحلم دون أن نعمل ونضع الأهداف ونسعى لأجل الوصول إلى ما نصبو إليه، كذلك يجب أن نتعلم دوما أن الغرور قاتل صاحبه، فمهما وصلت ومهما كسبت ومهما كان الكرسي ملتصقا بك، فإنك تاركه ليأتي غيرك ليجلس عليه، حتى وإن كان الكرسي من مالك الخاص فنحن البشر نركب طبقا عن طبق، أما هو جل جلاله فله الخلود: (وَیَبۡقَى وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَال وَٱلۡإِكۡرَامِ) ٢٧: الرحمن..

 

-------------------------------

توقيع:

"وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ..

وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ

 

وَالمالَ يَغشى أُناساً لا خَلاقَ لَهُم..

كَالسيلِ يَغشى أُصولَ الدَندَنِ البالي

 

 كُلُّ اِمرِىءِ بِسَبيلِ المَوتِ مُرتَهِنٌ..

فَاِعمَل لِنَفسِكَ إِنّي شاغِلٌ بالي"

الخليل بن أحمد الفراهيدي.