تُقاس الأوطان بالأفكار وليس بالأمتار

عباس المسكري

يحقُّ لأي إنسان التجديد لنمط عيشه وحياته، وكذلك يحقُّ للأوطان التجديد ومراجعة سياساتها التي تعيد هيكلة مكوناتها بدماء جديدة قادرة على مُواكبة جميع المتغيرات، ومُجابهة جميع التحديات على كافة الأصعدة، وهذا يدلِّل على أنَّ الوطن يدار من مجموعة عقول تتشارك فيما بينها لبذل المزيد من التطور والنماء اللذين يطمح إليهما كل مجتهد ومناضل لتعزيز المكانة الوطنية ومواكبة تقدم وتطور الشعوب التي لا تقل عنهم كفاءة ولا طموحا.

ومن هذا المنطلق، نستطيع القول إنَّه آن الأوان لمراجعة مفردات الذات، وإزالة الشوائب التي تقف حاحزا ببن ما يطمح إليه الإنسان المجتهد الدؤوب لتطوير وطنه وإسعاد مواطنيه على كافة الأصعدة؛ سواء كانت سياسية واقتصادية واجتماعية وصحية وتعليمية...إلخ.

إنَّنا اليوم إذ ننظر بنظرة المتفائل الطموح، ونجدد النداء لكل من يجد في نفسه الكفاءة والعزيمة الصادقة لفعل كل ما من شأنه خدمة وطنه دون كلل أو تذمر أو ملل، واضعا نصب عينيه أنَّ الوظيفة تكليف لا تشريف، والإخلاص فيها أمانة مُقدَّسة لا يدرك قيمتها إلا من يَعِي حق الأمانة، مصداقا لقول الحق: "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا". والجهل هنا عَدم الإدراك بماهية المسؤولية وفهم أبجدياتها وتلمُّس أبعادها التي ما إن وضعت نصب عين كل مسؤول وتقيَّد بها كل ذي سلطة وقرار، واجتهد كل موظف على رأس عمله وكل مواطن لم يجعل مصلحته الشخصية محصورة فيما يريده هو فقط، وأيقن أنَّ المشاركة الجماعية تنم عن حب خالص للوطن ذاته، وجَعَل في قرارة نفسه أنَّ هنالك نشأً وجيلًا يحقُّ له أن يَجِد له موطأ قدم في إكمال مسيرة العطاء والنماء الذي هو أيضًا طموح ومقصد ورغبة كل إنسان يعيش على تراب هذا الوطن الذي اختصَّه الله وميَّزه بالكثير.

إنَّ العالم يحثُّ السيرَ قدماً نحو التطور الحضاري والتنويع الاقتصادي، مستغلا كلَّ الإمكانيات والتقنيات العلمية لبناء منظومة اقتصادية مستدامة، وتتنافَس الدول على تنويع مصادر الدخل وتهيئة جميع المناخات التي من شأنها أنْ تعزز مكانة الاقتصاد الوطني، ولا يقتصر على النفط كمصدر للدخل القومي؛ حيث إنَّ للسياحة دورًا كبيرًا في إثراء الاقتصاد؛ فهناك دول غير منتجة للنفط، وتعتمد على تنويع مصادر دخلها بما فيها السياحة، وعُمان -ولله الحمد- حباها الله بمقومات سياحية ما إن استغلَّت استغلالا مدروسا وهُيِّئت كافة الأماكن والمواقع لأسهمت في إثراء الاقتصاد، ناهيكم عن أن أغلب الدول انتقلت من عالم التجارة والاستيراد إلى عالم الصناعة والتصدير، وتسعى الدول للاكتفاء الذاتي من غذاء.

وبما أنَّ عُمان تحظى بكل المقومات الداعمة لتنمية الاقتصاد، من أمن واستقرار وموارد بشرية وموانئ ومطارات ومنافذ حدودية وبحرية تربُطنا بالعالم أجمع، ليس هناك أدنى شك بأنَّ ذلك يؤهِّلها لأن تكون محطة اقتصادية مزدهرة؛ فبرغم المرحلة الحرجة التي تمر بها المنطقة اقتصاديا استطاعت السلطنة -ومن خلال السياسة المتبعة- أن تقلل من الضرر الذي أصاب الكثير من البلدان، كما أن نهج سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية، ونأيها التام عن مجريات ما يدور في المنطقة واستمرارها على الحيادية أكسبها احترام وثقة الجميع؛ لذا لا أرى ما يمنع من أن تكون السلطنة واجهة اقتصادية في شتى المجالات.

وبما أنَّنا استطعنا أن نقف أمام كل التيارات بكل ثبات، ورغم العواصف المفتعلة التي هبت حولنا من أجل الإطاحة باقتصادنا، إلا أنَّ العزيمة والإرادة العمانية حكومة وشعبا حالت دون ذلك.

وها نحن نقترب من 2020 والرؤى المطروحة التي يعلق عليها الجميع آمالًا كبيرة، ولكي لا نقع في نفس الأخطاء التي وقعنا فيها سابقا، لا بد من مُراجعة شاملة ودقيقة لكل الإخفاقات في الخطط الخمسية السابقة، وعلينا التفكير والعمل بجدية من أجل أن تكون السلطنة مُنَافِسا قويًّا للدول المصنعة، ولن يكون ذلك إلا من خلال رؤى واضحة تهتم بكل التفاصيل ابتداءً من تنشئةِ جيلٍ مُتعلِّم مُثقف يمكن الاعتماد عليه مستقبلا، ومشاركة كافة أطياف المجتمع؛ فلا مجال اليوم لعدم مواكبة السير قدما لكل الدول التي وبفضل العقول النيرة انتقلت إلى دول عظمى صناعيًّا رغم صِغر حجمها؛ لأنه وبكل بساطة أصبحت الدول اليوم تقاس بالأفكار وليس بالأمتار.

تعليق عبر الفيس بوك