الحياة فنون

 

عائشة البلوشية

 

قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (لَّسۡتَ عَلَیۡهِم بِمُصَیۡطِرٍ)٢٢ سورة الغاشية، يقول الطبري في تفسيره للآية الكريمة: "لست عليهم بمسلَّط، ولا أنت بجبار تحملهم على ما تريد، يقول: كِلهم إليّ، ودعهم وحكمي فيهم؛ يقال: قد تسيطر فلان على قومه: إذا تسلط عليهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل"، توقفت كثيرا عند هذه الآية الكريمة، وفي البال تمر على الذاكرة تصرفات البعض وردود أفعالي تجاههم، ولأنني من الكاظمين الغيظ، دائما ما آتي على نفسي وأجبرها على عدم الرد إذا أخطأ أحدهم في حقي، أو توجيه العتاب له، وأحاول إيجاد الأعذار حتى تظل صفحته نقية في عيني، فعلى سبيل المثال كنت أتميز غيظا في داخلي عندما يتأخر أحدهم على موعد اجتماع، أو غيرها من المواعيد المماثلة والمختلفة، ولكنني أسكت ولا أحاول جرح الشخص -في نظري-، فلربما عطل وصوله الزحام المروري، أو ربما ظرف عائلي، إلى آخرها من الأعذار والمبررات التي أحاول اختراعها، لكن هذه الآية القرآنية علمتني أن الحياة فنون، وأيسرها نطقا هو فن التجاهل أو التغافل، أو باللهجة العامية (التطنيش)، وذلك لأبعد عن نفسي ارتفاع ضغطي الإسموزي، أو الضيق الذي كان سيستمر معي طول الجلسة، وما علي إلا أن أكون أنا الملتزمة بالوقت وأحترم الطرف الآخر، لكن دون أن أرفع ضغطي بسببه، وكم وجدت الراحة عندما اتبعت هذا الأسلوب، في طرقاتنا نهارات أيام الأسبوع في شهر رمضان الفضيل، تجد الكثير من سائقي المركبات يستعجلون للوصول لمقار عملهم، ضع في الاعتبار أنك لست الوحيد الذي يريد الوصول إلى مقر عمله في الوقت المناسب، لذا أمسك عليك لسانك من التلفّظ على غيرك بألفاظ نابية قد تفسد صيامك، واكسب أجر صبرك على تصرفات القلة ممن لا يحترمون آداب الطريق، لذلك كن فنانا في التغافل، وانصرف في ذلك الوقت بالذكر مثلا أو ترديد زادك من أورادك اليومية.

 

فن آخر جميل جدا علمتنيه هذه الآية هو فن التقبل، ولن أتحدث هنا عن لغة الإعلام العالمية التي تتغنى بتقبل الغرب للمسلمين وغيرها، ولكنني أتحدث عن تقبل الأشخاص من حولنا على علاتهم، ومما يساعدني على ذلك هو أن أترك بيني وبينهم مسافات أحتفظ من خلالها بمحتوى من الاحترام لهم لسبب أو لآخر، فنحن مرغمون على أن نستخدم هذا الفن مع الأرحام ومن تربطنا بهم صلات قربى أو صداقة، وحتى من يصغروني سنا بعقود وفي مقام أبنائي، أحاول التعامل معهم بأخلاقي، وأفترض جدلا أن أخلاقهم حسنة، ولكنهم إما يقلدون مثلا خاطئا يحتذون به، ويرونه الصحيح من منظورهم الغض، أو أنّ الدنيا ألهتهم عن صلة الرحم، أو حتى مجرد الرد على رسالة تهنئة، وسيأتي عليهم زمان سيتعلمون الصواب من الخطأ، لذلك حتى العتاب مع أمثال هؤلاء سوف يؤخذ على محمل خاطىء، وربما تسبب في خلاف عائلي بينك وبين أبويه، لأنه ويا للأسف أصبحت النصيحة تؤخذ مأخذ القبيحة في زماننا هذا، عليه يجب ممارسة فن التقبل معهم جميعا.

 

رحم الله الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي كان يصف القرآن بالدليل الذي يعطينا وصفات الحياة الصحيحة في الدنيا والآخرة، فكل آية تعطينا قيما عظيمة، وكل سورة تثرينا بعلوم شتى لا حصر لها، وكأنني أسمع صوته رحمه الله يرن في أذني الآن وهو يقول: أوليس للثلاجة كاتالوج تنظر فيه فتعرف كيف تعمل؟ كذلك الإنسان المسلم جعل له ربه كتابا لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، ولم تطله أيادي التحريف أبدا، هو دليله في الحياة الدنيا ومصباحه في الحياة الأخرى، فكيف به بعد ذلك يبحث عن الراحة في غيره؟! فإذا لمست جفوة من قريب أو عداوة لغير سبب من غريب، فتذكر أنك: (لَّسۡتَ عَلَیۡهِم بِمُصَیۡطِرٍ)٢٢ سورة الغاشية، وامض في الحياة متعلما فنونها الجميلة، فمهما تعلنا سنظل جهلاء، والله تعالى يقول في محكم كتابه العزيز: (وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِیلࣰا) ٨٥ سورة الإسراء.

 

 

---------------------------

 

توقيع:

"مَاذا عَليكَ إذا ما كُنتَ ذا أَدَبٍ،

والوجهُ مُبتَسمٌ والرُّوحُ في أَلَقِ.

 

هذا الجمالُ الَّذي في النَّاسِ نَنْشدُهُ،

ما نَفعُ شَكْلٍ جمَيلٍ لَيْسَ ذا خُلُقِ".

جهاد جحا.